كتاب خالدة سعيد الأخير "يوتوبيا المدينة المثقفة" دار الساقي، يضع أمام القارىء مفهوماً محدداً للمدينة المثقفة، حين يقدّم زمن بيروت الثقافي نهاية الأربعينات إلى مطلع السبعينات، من خلال خمس فعاليات مؤسسية ترى مقدمة الكتاب انها "رسمت تطلعاتها ومساراتها ما يمكن اعتباره مشروع المدينة المثقفة، المدينة التي تنهض على الفكر والقانون والحياة والإبداع". وهي " الندوة اللبنانية"، والمشروع الرحباني الفيروزي، ومجلة "شعر" ثم مجلة "مواقف" ، ودار الفن والأدب. تواريخ تسبق الحرب الأهلية حيث أجهضت الكثير من المشاريع. أول تلك الفعاليات " الندوة اللبنانية" 1946، وهي ملتقى نظّمه وأشرف عليه ميشال أسمر وموله من جيبه الخاص، وكانت مهمته كما تقول المؤلفة، استدراج رجال القانون والإدارة والاقتصاد والثقافة إلى حيث تعقد حلقات النقاش، فتتحول تلك الندوات نافذة لطرح الأفكار واختراق جدران الدولة والإدارات وأنظمتها بالرؤى، بالتحليل، والمقترحات، بحيث ينهض العلم رافدا مضيئا، وتنهض الثقافة بدورها كرافد ومحرك للأفكار الجديدة. الفعالية الثانية تمثلت باللقاء الفيروزي الرحباني، حيث ترى سعيد ان النهضة الغنائية التي مثلها التعاون بين فيروز وعاصي ومنصور الرحباني، لابد من رؤيتها في سياق تاريخ لبنان الحديث أو تاريخ الدولة اللبنانية، وما نتج عنها من تطورات سياسية واجتماعية وثقافية. وتربط هذا التاريخ بما تسميه اليوتوبيا الرحبانية الفيروزية وازدهار الشعر في لبنان، مرافقا لما وصف بأنه "عقيدة " أو " هوى جبلي" عبّر عن نفسه بالحنين إلى القرية. اغتذى هذا التيار كما تقول، من مؤثرات مختلفة، بينها الأدب المهجري وما يفيض به من حنين وتمجيد للطبيعة والفطرة، ثم شعراء الرومانسية والرمزية في لبنان وفي مقدمتهم الياس ابو شبكة ورواد المحكية اللبنانية الحديثة. لا تشير المؤلفة الى كتاب فواز طرابلسي الذي صدر قبل سنوات عن فيروز والرحابنة، مع انها تتفق مع الكثير من آرائه، في حين تقدم إشارة إلى كتاب غسان سلامة بالفرنسية حول المسرح السياسي اللبناني. ترى خالدة سعيد ان التفاعل الثقافي في بيروت الخمسينات والستينات، توج بصدور مجلة "شعر" ليوسف الخال وأدونيس ، ثم مجلة "مواقف" لأودنيس. وتضع للأولى عنوانا دالا ( مجلة "شعر" تحرير الشعر وتحرير الإنسان) ومن خلال هذا المبحث، تعود إلى طيف من التجارب الشعرية الحديثة في العراق وسوريا ومصر ولبنان، التي أسهمت في المجلة. في محاضرة له في " الندوة اللبنانية" يلخص يوسف الخال مفهومه للشعر بعد عودته من الولاياتالمتحدة واطلاعه على الحداثة الأميركية والبريطانية " كل تجربة لا يتوسطها الإنسان هي تجربة مصطنعة لا يأبه لها الشعر العظيم" . ولكن مجلة "شعر" التي أسسها الخال مع أدونيس تتلاقى فيها التجارب ويسائل بعضها بعضاً، وهي على هذا لم تملك برنامجاً أو خطاباً مكتملاً، فالخطاب سيتكامل في سياق المسيرة، وستمحى حدود المحظورات والتعليمات كما تقول المؤلفة. في العام 1956 وصل أدونيس لبنان من سوريا بعد خروجه من السجن ومن الجندية معا، فقصد يوسف الخال، فتلاقى الشاعران على هذا المشروع الذي ظهر في يناير 1957. ومع ان خالدة سعيد تؤكد في غير موقع ان الحداثة الحقيقية العربية بدأت مع مجلة " شعر"، غير انها تولي بعض التجارب التي سبقتها اهتماما في سياق نشرها في مجلة "شعر" بما فيها تجربة السياب والملائكة والبياتي وبلند، ولكنها تنظر إليها باعتبارها محاولات فردية : " المحاولات الفردية ما كانت لتصمد في وجه التيار العام الذي ينطق باسم التراث " المقدس" " . ولسنا هنا في صدد التحزب إلى تيار دون آخر، ولكننا نسأل كيف فات ناقدتنا الجميلة أن الحركة الأدبية أية حركة مهما كانت قيمتها، لا تنحصر بإطار تنظيمي أو تنظيري، أو حتى تجمع ثقافي أو مجلة، ولعل التواريخ تهدينا إلى بديهية بسيطة، وهي أن عشرة سنوات من عمر تجربة مثل تجربة الشعر الحر في العراق، كانت كافية على نحو يبعث على التأمل، في قدرتها على اكتساح المنابر الأدبية في العراق وسواه. فهي على هذا الاعتبار، لم تكن تجارب فردية، بل كانت حركة مكتملة بما فيها تنوع شعرها وتعدد رؤاه. لم يقابل شعراء الحداثة مجلة "شعر" بالصّد او التنكر، بل وجد فيها شعراء العراق ومصر وسوريا منبرا للتنوع في بلد مفتوح على النشر والانتشار مثل لبنان، مثلما وجدوا قبلها في " الأديب " والآداب" فسحات للنشر وتوثيق الصداقات، وتوسيع الجغرافيا الثقافية المشتركة للعرب. ولكن سؤال الشعر ونوعه يبقى في كل الأوقات قابلا للإختلاف والتعدد. تخوض خالدة سعيد في ما عانته مجلة " شعر" من رفض لمنطقها الذي لا يقيم كبير وزن لشعر القضايا السياسية، ويتبنى قصيدة النثر، تلك التي أفزعت حتى شعراء الحداثة وفي مقدمتهم نازك الملائكة. ولكن الحملة التي قادتها مجلة " الآداب" ورئيس تحريرها سهيل أدريس، كانت الأكثر وطأة على المجلة. هنا تبدو التواريخ جد قريبة، وتضمر اختلافا في الرؤى حول مفهوم الالتزام والشعارات والمراحل السياسية، ولكنها تنطوي أيضا على ما يمكن تسميته منافسة مهنية، وهي في الغالب تجد تعبيراتها في حدود من التحريم والتجريم. ومع ان مبحث خالدة سعيد حول مجلتي "شعر" و"مواقف"، ينطوي على متابعة دقيقية ومفيدة لمسيرة الصراعات حول الشعر ومفاهيمه، والفكر ومنطلقاته، غير اننا نجد فيه الكثير من الأقول التي تحمّل هاتين المجلتين ما لا طاقة لإصدار على تحملّه، كأن يوكل الى مجلة "شعر" مهمات رسولية مثل تلك التي تختصر مسيرتها بنص تورده الناقدة" نحن هنا داخل رؤية تعارض منطق النهضة العربية في شطرها الإحيائي، لصالح نهضة يتواصل فيها تجاوز الإنسان لنفسه وتثوير علاقته بتاريخه، وعلوّه على ما حققته ممكناته" . لعل الذي غاب عن ذهن ناقدتنا، ان واحدة من مشاكل العالم العربي، هيمنة الشعر على الحياة الأدبية والفكرية، ومنها خرجت تلك الأفكار الكبيرة التي تخوض في كل المواضيع بمنطق الشعر، وهذا المسعى ليس بمقدوره إحداث تثوير او قطيعة مع التراث، بل يجعل التراث يراوح في مكانه، ويترسخ في نموذج الشاعر الذي يملك كل الحقائق ويتفوق على منطق العلم والبحث والنظر. ومع الفوائد التي لا يمكن نكرانها لمجلات طليعية مثل مجلة "شعر"، ثم مجلة توفيق صايغ وصحبه "حوار" التي غابت او توارت عن كتاب خالدة سعيد حول مفهوم المدينة الثقافية، كما كانت وظيفة الكثير من المجلات الشعرية في العالم العربي وبينها مجلة " شعر 69 " العراقية. بيد أن تلك المجلات كانت وراء ظهور هذه الحشود التي طلعت من الشعراء الرائين في بلاد العرب ومن مختلف الأصناف. ولو لم تكن حركة النهضة الفكرية الحديثة بالمغرب العربي، قادرة على زحزحة هذا الإرث الثقيل الذي ظل مهيمنا على الثقافة، لبقي العرب يدورون مبتهلين حول بقرتهم المقدسة. في الكتاب نجد الكثير من الاستذكارات للرائدات والرواد الذين أسهموا في بناء مؤسسات جديدة كي يكون للمسرح والتشكيل والثقافة عموما، أمكنة للتفاعل والتناظر والنقاش ببيروت، غير اننا لم نقترب من روح هذه المدينة المثقفة، فقد بقيت نائية عنا رغم أن خالدة سعيد كانت من بين أجمل رموز هذا الزمن الذي تتحدث عنه، فقد عاشت ببيروت منذ نهاية الخمسينات وكانت جزءا من هذا التاريخ. المادة التوثيقية وطريقة تنظيمها مفيدة للباحثين، بيد ان التجربة الشخصية داخل تلك الثقافة، بقيت في هذا الكتاب ضعيفة أو متوارية وراء تلك الحجب التاريخية التي تكاد تظهر مثل آنية زهور في متحف. لعل خزامى صبري التي كتبت النقد وترجمت في المجلة التي يفرد الكتاب جزءاً أساسيا من مادته للتعريف بها وبريادتها، جديرة بأن تقول لنا لماذا لم تكتب باسمها الحقيقي أول ما بدأت، وما هي قصة الخصام بين أنسي الحاج وأدونيس؟ أو ربما نطل على شجار شخصي بينه وبين يوسف الخال، نقاش حول الفصحى والعامية التي دعا الخال الشعراء للكتابة بها. نعرف انها حكايات نافلة بين حكايا الثقافة، ولكنها ربما تهدي يوما إلى ملمح آخر من ملامح ثقافة متحركة تغدو قصصها الشخصية شواهد او لمسات او علامات، لما يمكن تسميته ديناميكية التاريخ الثقافي وخاصة للذين عايشوه ولم يستحضروه من المدونات وحدها. التاريخ الثقافي دائما فسيفساء متناثرة من السرديات المتصارعة، ولا يمكن تحريك الدماء في عروقه، إلا من خلال الصور الحياتية المتغايرة. لعلها فاصلة من فواصل كثيرة غاب عنها مايمكن الاختلاف حوله أو القبول به في حياة الثقافة الحقيقية. بيروت المثقفة قد نجدها في مقهى شعبي يقع في زاروب بالأشرفية، في طريقة بنائه، وفي تلك اللمسات المرهفة التي تفنن اللبناني في نثر أماكنه وعادياته فيها. قد نجدها في تنظيم البيوت ودروبها المفضية إلى البحر، وفي الأزقة التي تتقابل شرفاتها على حميمية الحياة في هذه المدينة البحرية التي تتنفس هواء حريتها في كل الأزمنة العربية المختنقة برهاب النساء والجمال. كانت بيروت دائما تتحرك داخل أمكنة الثقافة بداندية باريسية، وبرشاقة الاختراق والتغاير، وبملل من كل ركود وتسليم بالمتعارفات. بيروت كانت منتدى العرب، ومدينة المثقفين الهاربين من سلطاتهم، ورقابات مجتمعهم. ورغم الفضاء المفتوح الذي امتلكته حتى في زمن حربها الأهلية، لم تكن حياتها تخلو من صراع مع الوجود العربي داخلها، سواء على صيغة مثقفين استوطنوها، أو احتدامات سياسية وفكرية خاضها المثقفون أنفسهم، ومع فسحة الحرية تلك، حيث تحولت إلى حرب بدت وكأنها حروب العرب مجتمعة على بقعة مضيئة في تاريخهم الحديث.