عايشتُ مجلس التعاون لدول الخليج العربي منذ أن بدأ فكرة، وكنت ممن شاركوا بفكرهم في هذا الأمر، وكتبت في حينه إلى ذوي الاختصاص برأيي في هذا المنتظر الكبير، وحين تم ميلاده وظهوره إلى حيز الوجود عملاً عربياً إيجابياً، سعدت أيضاً بأن مكتب التربية العربي لدول الخليج الذي كنت أشرف بإدارته العامة آنذاك استضاف الأمانة العامة للمجلس في الشهور الستة الأولى من قيامها، وشارك في وضع لوائحها الداخلية. إنني لم أشهد من خلال طويل تعاملي مع أبناء بلادنا العربية الخليجية بأية فوارق نفسية أو اجتماعية على الإطلاق، ما يجعل قيام وحدة لبلادنا الخليجية أمراً قريباً للنفوس، جامعاً للمشاعر، محققاً لطموحات أبنائها *** وقد كان مكتب التربية العربي لدول الخليج وما انبثق عنه من مشروعات أهمها: قيامه بإنشاء جامعة الخليج العربي في البحرين، وإنشاء مركز البحوث التربوية في الكويت كان سابقاً لقيام المجلس بصفته الحالية. ولقد تعمقت في نفسي من خلال إدارتي سنوات عديدة لمكتب التربية قوة الشعور بضرورة الالتحام الحقيقي لدول الخليج كلها؛ يقيناً مني بأن اتحاد الدول الخليجية حتمية لابد منها في مواجهة ظروف عصرنا العالمية السياسية منها والاقتصادية، وقد كان هذا شعوراً متبادلاً بين كلّ من هم على علم من أبناء منطقتنا بأن ظروف الحياة توجب علينا اللقاء والتوحد. *** إنني لم أشهد من خلال طويل تعاملي مع أبناء بلادنا العربية الخليجية بأية فوارق نفسية أو اجتماعية على الإطلاق، ما يجعل قيام وحدة لبلادنا الخليجية أمراً قريباً للنفوس، جامعاً للمشاعر، محققاً لطموحات أبنائها. *** وتتوالى الأيام وتشرفني قيادة بلادي باختياري للهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى لمجلس التعاون الذي يضم ثلاثين من أفاضل رجال ونساء الدول الأعضاء يلتقون دورياً ويقدمون المشورات والآراء ويرفعونها للمجلس الأعلى، من هنا ازداد شعورنا عمقاً في هذه الهيئة الاستشارية بضرورة تحقيق ما نرنو إليه من اندماج وحدوي. *** وتفجّر الأحداث والعواطف المزمجرة من حولنا يجيء دافعاً أكبر لتوحد كل دولنا الخليجية، ولاسيما ان نظام مجلس التعاون ينص في إحدى مواده على أن التعاون بين الدول لابد ان يصل بها إلى الوحدة. وشاء الله أن يرفع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - في اجتماع المجلس الأعلى الأخير في الرياض راية الدعوة إلى تحقيق الاتحاد الكامل لهذه الدول، فيستجيب له الجميع بصدق وحماس غير مسبوق في مثل هذه الأمور. *** لقد حاورتُ كثيراً ممن أعرفهم حول هذا الشأن - الذي يُسعد الجميع - وطلبت منهم ان نكون جميعاً عوناً فاعلاً وسنداً عملياً للجهات الرسمية فيما ينبغي ان يحقق هذا الاتحاد ويدعم فعالياته، ويحقق أهدافه. وسؤالي المحدد هو: ما هي أنجح السبل؟ وما هو الممكن والمناسب من مقومات هذا الاتحاد؟ إن الفرق كبير بين أن يقدم الإنسان على اتخاذ موقف أو عمل من باب الترف، وأن يتخذه من باب الضرورة. إن الضرورة الواقعية التي نعيشها اليوم توجب علينا التنازل عن بعض جوانب الأعمال الفردية، وتفرض الامتزاج في الوحدة، التي هي القوة والنجاة والحفاظ على السيادة والأمن الجماعي؛ إذ لا أمن لدولة منفردة، وإنما الأمن والسلام يلازمان الوحدة. *** وأول ما هو لازم أن يبدأ به هذا الاتحاد هو توحيد قوة الدفاع؛ لنرى وزارة دفاع خليجية واحدة قوية قادرة؛ فلتتماسك الأيدي وتتساند الأكتاف فإن يداً إلى يد قوة، وحجراً إلى حجر بناء. فلقد علمتنا الأحداث السابقة والحاضرة أن المخاطر واحدة، وان ما يمس أية دولة من دولنا هو مساس بالدول الأخرى كلها، ولا أجد خطراً خارجياً يهدد دولة من دولنا دون سواها، فالخطر داهم للجميع، والأمن سلام لنا كلنا معاً. *** ويأتي توحيد سياستنا الخارجية الممكن الثاني الذي أرجو تحقيقه، بأن تكون لنا وزارة خارجية واحدة، وسفارة خليجية واحدة في كل دولة من دول العالم التي نقيم معها علاقات تحمل موقفاً واحداً، وتبدي رأياً واحداً قوياً جامعاً. أما ثالث ما هو ممكن التحقيق من هذا الاتحاد فهو مزيد من الانصهار الاقتصادي بما في ذلك توحيد العملة التي طال انتظارها، وعدم إرجاء ما سبق الاتفاق عليه من قرارات تصب كلها في صالح الاتحاد. *** إنني ممن لا يؤيدون المركزية، ويدعون إلى إعطاء كل منطقة حريتها في علاج قضاياها الداخلية، لهذا فلكل دولة من الدول أن تقرر ما يخص شؤونها المحلية ومطالب الحياة الداخلية عندها: كشؤون البلديات، والرعاية الصحية، والاسكان، وكذا رعاية التعليم بكل مراحله وأنواعه، على ان يكون هناك تقارب في سياساته وتوجهاته، وتسهيل قبول الطالب من أي دولة يجيء من دولنا. *** الاتحاد قوة.. علّمنا التاريخ أهميتها، وهي في هذا العصر أشد ضرورة، وأكثر إلحاحاً؛ ما جعلني أشعر بسعادة غامرة حقيقية بدعوة خادم الحرمين الشريفين لتحقيق هذا الاتحاد بين دولنا، دول مجلس التعاون والاستجابة الفورية من قبل القادة لهذه الفكرة النبيلة. أما الذين يمتعضون لذلك قائلين: بأن مزايا بعض شعوب دولنا مع قيام الاتحاد ستتأثر سلباً، فقد جانبهم الصواب وباعدهم الحق.. فالأمور الكبرى لا تقاس بالفرديات، وأخشى أن المزايا التي يخافون ضياعها مع قيام هذا الاتحاد سوف تضيع إذا لم يقم هذا الاتحاد ويحفظها لبلادنا. ولأولئك الذين يقولون إن تحقيق هذا الاتحاد ليس سهلاً أقول لهم: إنه - مع ذلك - غير مستحيل ولا متعذر، وعسى ان يكون المختارون لبلورة أسس هذا الاتحاد من ذوي الرؤى الثاقبة الرحبة الذين يبتعدون عن مواقع أقدامهم في نظرتهم إلى البعيد مما هو أمامهم. *** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد..