منذ أن أنشئ مجلس التعاون قبل ثلاثة عقود ونحن نتطلع إلى أن يصل هذا الكيان الذي بدأ بالتعاون إلى الاتحاد. ومثلما أن المجلس وُلدَ استجابة لمتطلبات مرحلة سياسية آنذاك، فإن المرحلة التي نمر بها الآن تجعل الانتقال من التعاون إلى الاتحاد هو أيضاً استجابة صحيحة لمقتضيات المرحلة الحالية، وخطوة مطلوبة وملحة تنسجم مع المتغيّرات السياسية والاقتصادية، والتي تلقي بظلالها على أمن دول الخليج واستقرارها؛ وهذا ما أشار إليه خادم الحرمين في كلمته (التاريخية) في افتتاح قمة مجلس التعاون الثانية والثلاثين في الرياض. يقول - حفظه الله-: (لقد علّمنا التاريخ وعلّمتنا التجارب أن لا نقف عند واقعنا ونقول اكتفينا، ومن يفعل ذلك سيجد نفسه في آخر القافلة ويواجه الضياع وحقيقة الضعف، وهذا أمر لا نقبله جميعاً لأوطاننا وأهلنا واستقرارنا وأمننا. لذلك أطلب منكم اليوم أن نتجاوز مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد في كيان واحد يحقق الخير ويدفع الشر إن شاء الله). ولا أعتقد أن مواطناً خليجياً عايش منجزات مجلس (التعاون) على كافة الأصعدة، إلا ويطمح أن ينتقل هذا المجلس إلى الكيان الموحّد؛ بل أعتقد أن هذه الخطوة التي انتظرناها طويلاً هي اليوم، وفي ظل الظروف المعاصرة، ترتقي لتلامس مستوى (شرط الضرورة) لبقاء هذا المجلس، وبالتالي بقاء الدول الأعضاء. كل ما نحتاجه أن نرتقي إلى مستوى تحدي المرحلة وآمال وتطلعات الشعوب الخليجية، والعمل بجدية على الانتقال إلى مرحلة التشريعات التي من شأنها أن تجعل الاتحاد حقيقة على أرض الواقع. أعرف أن هناك الكثير من التباينات والاختلافات في وجهات النظر، وربما التصوّرات، عندما يأتي الحديث في التفاصيل، غير أن الرغبة الصادقة في تحقيق هذا الحلم لا بد أن نتجاوز هذه التباينات، ونتخطاها؛ فهذا المجلس هو أنجح مجلس إقليمي تعاوني في المنطقة العربية على الإطلاق، وخلال مسيرته حقق كثيراً من الإنجازات، وحريٌ به في ظل الظروف المعاصرة أن يُكلّل هذه المسيرة والتاريخ الحافل بالإنجازات بتخطي كل العقبات التي قد تعترض طريق الاتحاد؛ فليس ثمة عقبة إلا ويمكن إما إزالتها بالكلية، أو على الأقل الالتفاف عليها، وتحقيق الحلم؛ المهم (أن نكون على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقنا تجاه ديننا وأوطاننا) كما جاء في كلمة الملك عبد الله. ومن يقرأ في أدبيات الكتَّاب السياسيين الخليجيين سيجد أن هناك شبه إجماع على ضرورة قيام كيان كونفيدرالي خليجي يجمع بين دوله، بعد أن ثبت بالتاريخ والتجربة أن ثمة عوامل مشتركة بين شعوب ومجتمعات واقتصاديات دول المجلس، وكذلك تماثل في المخاطر والتحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها دوله؛ وليس ثمة أفضل لمواجهتها من التوحّد في كيان كونفيدرالي واحد، ذو هيئة مشتركة، يُبقي على خصوصيات دوله وسيادتها واستقلالها، ومرجعيات قوانينها، وكذلك سلطتها المباشرة على رعاياها، ويُوحِّد بينها فقط في بعض السياسات المشتركة المتفق عليها، كالدفاع والقضايا النفطية والتعليمية، وكذلك بعض التشريعات كالتشريعات الجمركية والعمالية والتشريعات المتعلقة بالبيئة مثلاً؛ المهم أن نبدأ بالتوحّد في ما يمكن لنا الآن التوحّد فيه، على أن يتم تطوير الاتحاد وإثراؤه وتوسيعه مع الزمن، ليشمل مجالات أوسع. فالاتحاد الأوربي بدأ عام 1951 بعدد محدود من الدول هي فرنسا وألمانيا (الغربية آنذاك) وإيطاليا ودول بينيلوكس (benelux) (بلجيكا وهولندا ولكسمبورغ)، وفي مجال الفحم والصلب فقط، وهو الآن يضم 27 دولة، ذات عملة واحدة، وحدود مفتوحة بين الدول، وقوانين موحّدة في أغلب المجالات. والاتحاد الكونفيدرالي الخليجي سيخلق كياناً ذا قوة اقتصادية عملاقة، حيث تنتج دوله ما يقرب من 40% من إنتاج العالم للبترول والغاز، ناهيك عن احتياطاتها النقدية الهائلة؛ كما سيكون قادراً على مواجهة الأخطار المحدقة بنا وعلى رأسها الخطر الإيراني. إن أي مراقب يقرأ الأحداث والتغيّرات التي تمر بها المنطقة سيجد في النهاية أن الاتحاد الكونفيدرالي هو بالنسبة لدول مجلس التعاون ضرورة غاية في الإلحاح، تمليه علينا ضرورات المرحلة وتطوراتها. إلى اللقاء