الرواية، في نظر جان جورج، عمل تخييلي نثري، طويل نسبياً، يرسم شخصيات معينة في وسط ما، تبدو وكأنها واقعيه، وتجعلنا نتعرف إلى مكانها، وزمانها، والعوامل النفسية لأبطالها، ومصائرهم ومغامراتهم، ويقول الدكتور علي نجيب إبراهيم في دراسته عن جماليات الرواية: «أن تصوير الحقيقة أسمى القيم الواقعية، فكل شيء يجب أن يكون ملحوظاً بدقة، ليس ظاهرياً فقط، إنما في العمق، بغية كشف القوانين التي ترسم حركته واستمراره». ولقد سعيت، من أجل تصوير الحقيقة، إلى التعرف إلى دمشق في قاعها المعماري والحياتي، في تشابك بناء أحيائها القديمة وما تنطوي عليه من أسرار تبوح ولا تبوح، بعد أن كنت، قبل ذلك، قد تعرفت على دمشق الحديثة، في الصالحية والمهاجرين وشارع أبو رمانة الذي كان، في جدته وبهائه، مقصد الزوار والسياح. ولم تكن غايتي، في معرفة دمشق القديمة، أن أتعرف على شخصيات معينة في وسط ما، كي تبدو وكأنها واقعية في عمل روائي اشتغل عليه، كما يقول جان جورج، إنما كنت أرغب في الإطلاع، سواء كتبت عن هذا الذي أطلعت عليه أم لم أكتب، وقد كان هذا دأبي ولا يزال، فالمهم، كما قال تشيكوف، أن أغني دولاب محفوظاتي، وأن أرى الأشياء بأم عيني. بدأت أمشي في حي القيمرية، بعد أن اجتزت حي العمارة، ثم مضيت إلى أمام، وسط الأدغال المتشابكة لبيوت من طين ولبنات، يستطيع سكانها أن يتصافحوا من النوافذ، ويتبادلوا الزيارات عبر السطوح، ويسمروا في ليالي الصيف جلوساً أمام الأبواب، ما دام الغاية البنائية القديمة قد أهلتهم لكل ذلك، ووفرته لهم توفيراً طبيعياً ملائماً. وكما يناديني المجهول إلى المضي في عمق غابة ما إلى درجة معانقة نشوة الضياع فيها، ناداني أحساس خفي مبهم، إلى الدوران اللولبي مع الأزقة الحلزونية، مدفوعاً بسحر دمشق العجوز، مأخوذاً بفرحة طفل، أو لذة متشرد حر، أو منقاداً، ببساطة، باللاوعي الذي يحركني في الاتجاه الذي ينفتح للقدمين في هذه المتاهة الحلوة. كنت، وأنا في غابة البيوت، استشعر سيري في غابة الأشجار، فالسائر في الغابة يتلقى انعكاسات النظرات السنجابية أو الأفعوانية للعيون التي في الأدغال من حوله.. يستشعر الوحدة والرهبة وهو يعلم أنه ليس وحيداً، وأن ثمة مخلوقات تراه، تراقبه، تتبادل معه كل الأسئلة الصامتة، وكل الأحاسيس المتباينة للمودة والعداء، وكل الرغبة لتحقيق تلك الأحاسيس المنطوية على خطر الموت ومتعة اللذة في عملية العنف التي هي بديل وحيد عن رتابة العيش والضجر المتولد منها، وكذلك في عملية طرد الخوف للوصول إلى الطمأنينة، عبر العراك الذي يحقق التلاقي أو الافتراق، في ظرف استثنائي لوجوده في متاه الغابة. إنني أعرف الغابات، فقد ولدت فيها حين ولدت في اللازقية، كما أعرف البحر، لأنني جزء منه بالولادة أيضاً، وشرط المكان والزمان، وكل العوامل النفسية، الناجمة عن الغابة والبحر، متوفرة لدي بحكم اليفاعة التي كانت إلى جوارهما، غير أن الشيطان وحده يعلم مقدار انجذابي إلى المجهول، حيث الضياع ورهبته، وحيث الخروج من هذا الضياع وفرحته، وهذا المجهول، وأنا أسير في أزقة دمشق القديمة، ردني، لا شعورياً، إلى الغابة، رغم أن لا شبه، بين غابة الأشجار وغابة البيوت، المتشابكة عبر القناطر، وأن الأحساس، في الحالتين، لا تجانس فيه، فأنا، هنا، في أمان، بينما أنا، هناك، في خطر، وفي رهبة من هذا الخطر. أغلب الظن، أن الفيء، المتولد عن احجتاب الشمس، والنداوة المتولدة عن هذا الاحتجاب، هما اللذان شكلا شعوراً مبهماً في ذاتي، أوحي إلي أن المجهول يترصدني، وأن علي أن أتقدم لاكتشافه، وأن غابة البيوت هي نفس غابة الأشجار، وأن العوالم فيهما متمازجة، وردود الأفعال، ذات الدبيب النملي ودغدغته، واحدة، فكما أنه لا يستطيع، أي السائر في الغابة، أن يحدد الدغل، أو الشجرة، أو الأكمة، التي ترسل إليه، وتلتقط منه، تلك الأحاسيس وردود أفعالها، فإن هذا البيت، أو هذه القنطرة، أو هذا الزاروب المسدود، ترسل، وتلتقط أحاسيس لها نفس الوقع، ويظل المرء، كما في الغابة، يراوده سؤال: ماذا وراء هذه الجدران؟ أي عالم؟ أية مخلوقات؟ أية أسرار تكمن هنا!؟ لقد عرفنا الجواب، عن كل هذه الأسئلة، وغيرها، من تجوالنا في غابات كثيرة، وغابات اللاذقية وجبال كسب خصوصاً، كما عرفنا مدناً كثيرة، باحت لنا، على نحو ما، بأسرارها، فالرواد الشجعان، والأبناء الأشاوس، المستطلعون لكشف ما هو مجهول، أعطونا، في كتبهم ولوحاتهم ودراساتهم، كشوفات محرضة بقدر ما هي مثيرة، ومنيرة، للجوانب المجهولة في تلك الغابات البكر، والمدن الكبيرة، في المساحة وعدد السكان، فنحن نعرف أحياء القاهرة القديمة، وخان الخليلي، وقصر الشوق، والسكرية، وباب زويلة، أي أحياء القاهرة القديمة التي لم نزرها، ومنها زقاق المدق، وشبرا، وبولاق، وباب الحديد وغيرها، مما كتب عنها في القصص والروايات، وعرض في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، مثل بوابة الحلواني، والقناطر، والأزبكية، وجاردن ستي وغيرها، ونعرف، نفس الشيء تقريباً، عن بعض أحياء وشوارع باريس ولندن وموسكو إلخ.. فأين هي المدونات، القلمية واللونية والأزميلية، التي تحدثت عن دمشق، وجعلت القارئ أو المشاهد، في بيروت أو القاهرة أو تونس أو الجزائر. يعرف القيمرية والعمارة وقبر عاتكة والساغور والميدان وباب سريجي والخريقة وسوق لحميدية والقلعة الشهيرة؟ شاميات الشاعر الكبير سعيد عقل، التي غنتها، وخلدتها، فيروزو تحكي عن بردي، وقاسيون، والغوطة، وكذلك قصائد أحمد شوقي وغيره، التي تتحدث عن جلّق وثورتها ونضالها، إلا أن دمشق أفاض في الكلام عليها أمثال محمد كرد علي، في دراساته، والشاعر المرحوم نزار قباني في قصائده، لم تزل غير معروفة، على نطاق واسع، في البلاد العربية والعالم، من خلال القصص والروايات والأفلام السينمائية، والمسلسلات التلفزيونية، التي تخطت حدود عاصمة الأمويين. المخرج السينمائي البولوني فايدا، الذي زارنا يوماً، فتن بما لدينا من معالم، استنتج، في ملاحظة لا ينقصها الذكاء، أن فنوننا، المكتوبة عن دمشق، تناولت سطوح الأشياء والناس، ولم تتعمق وجودهم كما ينبغي، ويسألني الناس والقراء هذا السؤال: وأنت لماذا لم تكتب عن دمشق، وقد عشت فيها أكثر من نصف قرن حتى الآن؟ وفي الجواب أقول: لا أدري!