رواية «سائقي» للكاتبة ماغي غي تنقسم إلى ستة أقسام، ويمكن اعتبارها تتمة لرواية الكاتبة السابقة «منظفة بيتي»، فالشخصيات الثلاث الرئيسة في الروايتين هي نفسها: فانيسيا الكاتبة، زوجها تريفور المطلق ومنظفة بيتها السابقة ماري الأوغندية. كما أن في الرواية الثانية إشارات عدة إلى أحداث الرواية السابقة. وتتناوب فصول «سائقي»، بين الماضي والحاضر، وبين لندن وأوغندا إلا أن معظمها يدور في أوغندا. دعيت فانيسا إلى كامبالا لحضور مؤتمر للكتاب وتريد في الوقت نفسه أن تتصل بمدبرة منزلها ماري، تفتش عنها عبثاً وهي لا تعرف أن ماري تعمل في فندق شريتون الذي نزلت فيه. تخرج فانيسا من الفندق للتسوق وتدور في أزقة كامبالا وأسواقها، فتضيع ويتحرش بها بعض الرجال. ونتابع وصف الكاتبة الدقيق الحي لأسواق كامبالا وشوارعها المكتظة بالسيارات، قذارتها، الفقر والمتسولين فيها، والباعة المتجولين، السرقة والنشل، أصواتها وروائحها. ولكن الكاتبة لا تغفل طيبة الناس حين يخلّص رجل أوغندي فانيسا من نشال، وترافقها أوغندية حتى تطمئن إلى ركوبها سيارة أجرة آمنة. كانت فانيسا قد غادرت لندن من غير أن تنبئ أسرتها، وكذلك من غير أن ينبئ أحداً يغادر تريفور، زوجها المطلّق، إلى أوغندا ملبياً طلب ماري، مدبرة منزلهما في السابق، ليحفر مجاناً بئراً في قريتها الفقيرة. بعد إنهاء عمله يذهب تريفور مع ماري في سيارة زوجها في رحلة إلى خط الاستواء، وبعد بضعة أيام تعود ماري إلى عملها ويتابع تريفور رحلته وحده. بعد انتهاء المؤتمر تقرر فانيسا القيام برحلة إلى أدغال أوغندا لتراقب الغوريلات، وبدلاً من السائق المدرب ترسل إليها الوكالة سائقاً متمرداً لا يعرف المنطقة، فتشوقنا الكاتبة إلى معرفة نهاية هذه المغامرة. بعد أن يصلا إلى غابة الغوريلات تتشاجر مع سائقها فيتركها أمام الفندق الوحيد في المنطقة، فندق عبارة عن خيم بدائية. بعد نهار سير مرهق تتسلق فيه مع السياح الآخرين المرتفعات المؤدية إلى أسر الغوريلات، تعود فانيسا إلى غرفتها وتعد ما معها من نقود، فيما يراقبها خلسة شاب معدم ناوياً أن يسرق نقودها ولو اقتضى ذلك قتلها. فهو من هؤلاء الشبان الذين خطفوا أطفالاً وجنّدوا قسراً فتعودوا على ارتكاب مختلف الجرائم. وحين يكون تريفور في رحلته يتصل به ابنه من لندن لينبئه أن حفيده مريض وأن فانيسا في اوغندا تراقب الغوريلات وأنها مقيمة في «مخيم الغوريلا في الغابة». ويسمع تريفور من نزلاء فندقه أن مسلحين هاجموا هذا المخيم منذ فترة وجيزة وقتلوا فيه 17 سائحاً أوروبياً، فيطير صوابه خوفاً على فانيسا ويركب السيارة ويتوجه حالاً لإنقاذ زوجته. وبدقة وبطء تصف الكاتبة دخول فانيسا غرفتها، ابتعاد الخادم الذي كان يرافقها، إطفاءها نورها، استعداد الشاب للدخول عليها، ونتابع ذلك بكثير من التشوق إلى معرفة النتيجة قبل أن يظهر تريفور فجأة بعد رحلة منهكة في سيارته الصغيرة القديمة ويدخل عليها قبل الشاب اللص. ويصطلح الزوجان، ويغادران المخيم في اليوم التالي، إلا أن المطر الغزير، انهيار الطريق، والألم الشديد في كاحل تريفور الملتوي تمنع تريفور من متابعة الطريق قبل أن يشاهدا شاباً ممزق الملابس. يعرض الشاب عليهما قيادة السيارة، يقبل تريفور على رغم ممانعة فانيسا، وفي النهاية يصلون إلى بيت ماري سالمين فيتضح أن الشاب هو ابنها جميل الذي فقدته منذ سنين. إلا أن متعة القراءة ناتجة عن فن الكاتبة في حبك أحداث روايتها. تنتقل بفصول الرواية بين فانيسا وماري وتريفور، ومن خلال هذا الانتقال تكشف لنا القصة جوانب من حياة الثلاثة الماضية والحاضرة لتكتمل بها أحداث الرواية. وبذلك لا تطلعنا على أحداث القصة إلا تدريجاً. مثلاً، لا نكتشف أن ماري متزوجة ولها ابنة إلا بعد ثلاثة فصول، وبعد أن تذكر أن تريفور عشيقها وأن لها ولداً من زوج سابق، جميل، اختفى ولا تعرف عنه شيئاً. ومع أن فانيسا جاءت إلى كامبالا أيضاً لترى ماري التي تعمل في الفندق الذي نزلت فيه فانيسا، إلا أن الكاتبة تجعل المرأتين تمران على مقربة من بعضهما بعضاً من غير أن تعرف الواحدة بوجود الأخرى، فيزداد شوق القارئ إلى أن يعرف متى وكيف ستلتقيان؟ وتقطع الكاتبة تتابع أحداث القصة بين الفينة والأخرى لتتكلم عن شاب جندي معدم، هزيل جداً، كأنه هيكل عظمي متحرك، فيتساءل القارئ: من هذا الشاب، وما علاقته بالقصة؟ ولا يأتيه الجواب إلا في آخرها. ووصفها شخصيات الرواية من أجمل ما فيها. لا سيما تحليلها لشخصيتي ماري وفانيسا. ترينا إلى أي مدى أثرت طفولة فانيسا المحرومة من العطف والتقدير في شخصيتها. لأن الدولة اختارتها لتمثلها في مؤتمر كامبالا اعتقدت أنها روائية عالمية، فتحاول، عبثاً، ان تقنع موظف الأمن العام، ومن بعده موظف شركة الطيران، بنقلها إلى الدرجة ألأولى. وحين يؤكد لها هذا الموظف أنها من «مسافري العالم» تظن أن ذلك يعني انها من ركاب الدرجة الأولى. فببراعة نجحت الروائية أن ترينا بعد هذه الكاتبة عن المعيش، وفوضى الأوراق والصور والتقارير التي في حقيبتها، مما تحتج إليه ولا تحتاج، يؤكد بعدها عن التنظيم وشرود ذهنها. أو حين تتخيل أن كل الكتاب يعرفونها وأعمالها، وحين يتضح لها أنهم لم يسمعوا بها تحاول أن تقنع نفسها بأن رواياتها أفضل من روايات غيرها، وإن كانوا أكثر إنتاجاً منها فلأن قيمهم ومقاييسهم أدنى من قيمها مقاييسها. وأوصافها، بعد، ممتعة. ببراعة نادرة تصف الجنود الثوار وهم يتعثرون في الغابة، ملابسهم جمدها الدم الجاف عليها، والبراز، والعرق، يعرجون مرهقين، خائفين، فيما يصطرع في قلوبهم الرعب والأمل. (ص20) أو تصف وصفاً مؤثراً عمال مناجم الذهب المستعبدين: مرضهم، موتهم او قتلهم، ورميهم نفاية لم يعد أصحاب المناجم بحاجة إليهم. (ص 80) أو حين تجد فانيسا نفسها وحدها مع السائق الذي يتجاهلها من جهة ويهددها من جهة ثانية. فتصف الكاتبة ابتسامته «التي تحرّك عضلات وجهه فوق فراغ، مثل ماء يلمع فوق تمساح. ترى أعماق إذلال مخيفة حيث تختبئ أشياء بأسنان، ونتنظر عيناه كعيني كلب، ولكن البؤبؤ من حجر.» (ص221) ولا تصف الأشخاص وحدهم، وإنما في الرواية أيضاً أوصاف دقيقة حية ممتعة لأدغال أفريقيا بأشجارها ونباتاتها وطيورها وحيواناتها وبحيراتها وأسماكها. ومن الطبيعي أن لا تغفل ماغي غي الأوضاع السياسية في أوغندا. فعلى رغم غنى البلد بالبترول والماس والذهب كان الشعب فقيراً جداً بسبب الفساد، ولأن الحاكم وأسرته مستولون على ثروة البلد كلها، إن أراد الشعب الاحتجاج يهاجَم المتظاهرون بالقنابل المسيلة للدموع، أو يحرقون في الشاحنات التي تقلهم، إن وعدهم الحاكم باستقبالهم والاستماع إلى مطالبهم ينتظرون أياماً وليالي في العراء ليعودوا بعد ذلك إلى قراهم صفر الأيدي. ويخطف الأولاد ليجنّدوا عنوة في جيش الحكومة او الثوار. وليس مستغرباً أن يتخلل ذلك نقد للحكم والفساد وأوضاع الشعب المزرية. جاء النقد ساخراً أحياناً، مثل قولها مثلاً، إن الذهب الذي يستخرجه العمال بأدنى الأجور لتصدره بعد ذلك إلى الغرب الغني شركات غربية أو اوغندية يكافئها رئيس الجمهورية بأوسمة لأن «أوغندا لا ينبغي أن تكون بلداً فقيراً، بل أن تتحرك نحو المستقبل» (ص80) والنقد مبطن أحياناً، كما في وصف الكاتبة السياح البيض وهم يلتهمون السندويشات التي أعدها لهم الفندق فيما ينظر إليهم الأولاد الجائعون الهزيلون الذين لا طعام معهم، ولا يخطر لهؤلاء البيض أن يعرضوا شيئاً على الأولاد الأفريقيين. وبطريقة غير مباشرة تنتقد الكاتبة احتقار الإنكليز للافريقيين حين تصف غضب فانيسا على النادل حين أتاها بشاي مع حليب ساخن لأنهم لا يفهمون كيف يُشرب الشاي في إنكلترا: أسود مع حليب بارد. وحين تقرأ عن إدانة بلجيكا وأميركا الثوار على أنهم إرهابيون تذكر أن أعمال بلجيكا حين استعمرت الكونغو أو أميركا في العراق لم تكن أفضل ولم يحاسبهما أحد. ومن النادر أن تخلو رواية إنكليزية من الفكاهة. نذكر على سبيل المثال أن أحد خطباء المؤتمر كان يلقي كلمته بحماسة فاتحاً فمه، وإذ بذبابة كبيرة تنتهز الفرصة وتدخل الفم. أو، في إحدى جلسات المؤتمر كانت كاتبة تلقي كلمتها فشدّ الحضور بروز ثدييها من فتحة قميصها ...دقيقة، وبعد اندهاشهم بالثديين خلدوا إلى نوم عميق، فيما تابعت الكاتبة كلمتها المملة. إلا أن صفحات الكتاب كله مفعمة بحب الكاتبة لأفريقيا وطبيعتها وأهلها. ففي عدد من الفصول تقارن بين فقر الافريقيين المدقع وجشع الأميركيين والأوروبيين الذين لا يفكرون في غيرالاستيلاء على ثروات افريقيا الطبيعية. وفي مقطع شعري مؤثر تذكر كيف اجتمعت قبيلة الباتوا تطالب بحقها في أرضها التي صودرت. أثناء الاجتماع انهال عليهم مطر غزير إلى حد أن سقط عليهم السقف، وفجأة وقف المجتمعون يضحكون، رموا أوراقهم لتطير في الريح وأخذوا يرقصون رقصة الباتوا. تقول: «إنهم أصبحوا تاريخهم، ولم يفقدوا شيئاً، أصبحوا أبديين، أصبحوا الغابة». (ص275)