قبل أربعة عشر عاماً، وبالتحديد في العام 1418ه كتبتُ مقالاً تحت عنوان «التقوى والتقنية» تعليقاً على محاضرة ألقاها وزير الصناعة الاندونيسي في مدينة جدة، أشرت فيه إلى أهمية تزاوج التقوى مع التقنية من أجل ان تصب التقنية الحديثة فيما يخدم الإنسان، بدلاً من ان تتوجه إلى تدميره وتحطيم مستقبله، وكان ذلك ما تطرق إليه الوزير الاندونيسي عند حديثه عن الفلسفة التي تقوم عليها الصناعة الاندونيسية.. ولأن التطور التقني، شأنه في ذلك شأن بقية المؤشرات الاقتصادية التنموية الأخرى، يهدف في المقام الأول والأخير، أو هكذا يجب، إلى المساهمة في أحداث التنمية التي تنشدها الشعوب والدول، فإن الحاجة إلى استحضار مبدأ التقوى يجب ان يتجاوز حدود التقنية ليكون حاضراً في كل مسارات التنمية وبرامجها وخططها، وبالذات مع ما حصل في العالم في السنوات الأخيرة من صراع مادي وتنافس دنيوي أصبحت معالمه السلبية واضحة للجميع. بل، ومع الأسف أصبحت له مؤسساته وهيئاته الدولية التي تؤسس له وتدافع عنه، مغيّبة في سبيل ذلك جوانب العدل والمساواة وحقوق بقية شعوب الأرض في أن تعيش حياة كريمة شأنها في ذلك شأن الشعوب الأخرى التي سبقتها في هذا المضمار. لقد أضحى العالم ومنذ سنوات يعيش في حلبة صراع تحكمها المادة، وأرقام الاستثمار، وأرصدة البنوك، صراع ما بين الدول ذاتها، أو داخل تلك الدول وما بين مواطنيها ومؤسساتها إلى درجة أصبحت معها تلك الأرقام والأرصدة هي معايير الأداء وغايات النجاح، بعيداً عن كافة الجوانب الأخرى التي تتطلبها طبيعة الحياة البشرية التي تنشد المساواة والعدل، وتتكامل فيها الجوانب المادية والإنسانية، أصبح العالم يعيش في لهاث مادي انعكس أثره على الشعوب، بل وعلى علاقات الدول بعضها ببعض حيث الغلبة للأقوى، والتحكم لأصحاب الأرصدة والأرقام الكبيرة. إن هذا السباق، مع الأسف الشديد، أدى إلى أن تكون الثروة والغنى هدفاً في حد ذاتهما، والنجاح أصبح يتمثل في القدرة على تجميع الثروة وتراكمها والوصول بأرقامها إلى مستويات فلكية يتنافس من خلالها أصحاب الثروات والمال. لم يعد استثمار الثروات بطريقة تساهم في انعكاسها الايجابي على المجتمعات هدفاً ذا أولية، بل أصبح تعظيم الأرقام هو الهدف، وكانت النتيجة البحث عن قنوات استثمارية تحقق هذا الهدف بعيداً عن المشروعات المنتجة التي تحقق الفائدة للمجتمع وأبنائه من خلال خلق الوظائف وتحسين مستوى معيشة الشعوب. أصبحت المليارات ومن خلال أسواق المال، والاندفاع المحموم نحو تعظيم الثروات وزيادتها، تنعكس فائدتها على عدد محدود من البشر، هم أصحابها، وعدد محدود من مديري محافظهم ومستشاريهم، دون ان ندرك ان مشروعاً تجارياً أو صناعياً أو خدمياً محدوداً يسهم في خلق قيمة مضافة إلى المجتمع الذي يتواجد فيه، ويؤدي إلى إيجاد وظائف لمواطنيه يعتبر أولى وأهم ألف مرة من مليارات تدار من قبل شخص أو شخصين وتنعكس فائدتها فقط على مالك تلك المليارات، والأمر نفسه ينطبق على أموال الدول والمؤسسات واستثماراتها. إن النتائج واضحة لهذا الصراع والتوجه والخطر القادم أكبر إن استمر الأمر على ذلك النهج حيث تغلب المعايير المادية على كل التصرفات والقرارات. وما حدث كان نتيجة لقيم ومبادئ زرعتها الدول الغربية في شعوبها وفي مؤسساتها بعد خلاصها من ثوراتها وإحكامها السيطرة على مقاليد التنمية وقيادتها للعالم من خلال تصنيف ذلك العالم إلى عالمين أحدهما متقدم، والآخر خلاف ذلك. وقد امتد أثر ذلك التوجه إلى بقية دول العالم حيث تأثر الضعيف بالقوي كما هي سنة الكون، وهو أمر يلحظه المتأمل في أي بقعة من بقاع هذا العالم. ولأن العالم العربي، والذي نحن جزء منه ونتأثر بما يجري فيه بلا شك، يعيش فترة مخاض كانت بواعثها اختلالات التنمية وانتشار الفساد، وستكون نتائجها، أو هكذا يجب، توافر الشفافية والحد من الفساد وإيجاد تنمية شاملة متوازنة تنعم بها الشعوب داخل كل قطر عربي، فإن أهمية استحضار جانبيْ العدل والمساواة وضرورة ان تكون الثروات وطريقة استثماراتها عوامل للاستقرار الاجتماعي والسياسي وتسهم في تحقيق التنمية، هي أمر تتطلبه ضرورة نجاح تلك التنمية وتحقيق الاصلاح وسيرهما في المسار الصحيح. إن التركيز على الجوانب المادية فقط سيؤدي حتماً إلى نتائج لا تخدم الجميع، بل سيقود إلى صراعات ومنافسات تزيد الفجوة وتخلق الفوارق بين المواطنين ما يؤثر في تقدم تلك المجتمعات واستقرارها اجتماعياً وسياسياً، والعكس صحيح حيث العدالة والمساواة والتي ستدفع بالإنتاجية وتحسين الأداء على مستوى الأفراد والمؤسسات ما يقود إلى استقرار سياسي واجتماعي بل ونفسي تنشده الحكومات والشعوب..