حمل لقاء وزير المياه والكهرباء المهندس/ عبدالله بن عبدالرحمن الحصين بأعضاء مجلس الشورى دويهية اصفرت منها أنامل المواطنين. فبعد أن خلص وأعضاء المجلس نجيا, رد الوزير على من طالبه بتخفيض تكلفة تعرفة الكهرباء, بأن ما نسبته ثمانية وثلاثين في المائة من إجمالي سكان المملكة, لا تستنزف الكهرباء من جيوبهم أكثر من خمسين ريالاً في الشهر!, أما أربعة وستون في المائة منهم, فلا تكاد تكلفهم الكهرباء أكثر من مائة ريال في الشهر أيضا. وبحسبة بسيطة, فإن متوسط الفاتورة الشهرية لتكلفة الكهرباء في السعودية لا تتعدى خمسة وسبعين ريالاً فقط!. ولعمري فلا تثريب على معالي الوزير عندما يرى يرد على من طالبه بخفض التعرفة, بأن"بعض الناس يريدون الكهرباء ببلاش", إذ إن هذه التكلفة "الزهيدة" بمعيار الوزير, هي ك "البلاش!", إن لم تكن هي" البلاش" بعينه! لكن موضعة كلام الوزير في الواقع المعاش, لا تعطي تلك التكلفة المتدنية التي بز بها الوزير الجميع, أي مصداقية, حتى مِن قبل مَن يعيش في دار خربة قوامها بضع لمبات, في منطقة معتدلة الطقس لا تحتاج إلى لا تبريد, ولا إلى تسخين. ومن هنا, فلا مناص من اللجوء إلى عملية ذهنية تأويلية, لصرف حديث الوزير إلى ما يتوافق مع الإمكان الواقعي, لا الإمكان الذهني الذي افترضه الوزير. سأفترض أن معاليه لم يقض صبوته في بيت مخملي, وبالتالي سأخمن أن لديه إلماما ولو بسيطا بأدوات الطاقة البدائية في نجد قبل دخول الكهرباء, تلك الأدوات التي لم تكن تتعدى, بالنسبة لأغراض الإنارة " التريك, والسراج, سواءً أبو فتيلة, أو أبو تفلة!", أو "القربة والزير والسقا, والمهفة" بالنسبة لمتطلبات التبريد, أما التدفئة فليس لها من وسيلة سوى الهصير(=حطب الأثل اليابس), وجلة(= روث) البقر أعزكم الله!. هذه الأدوات البدائية التي عايشها أهل نجد ردحاً من الزمن, فكانت رفيقة حلهم وترحالهم, كانت تكلفهم الشيء الفلاني, من قبيل: شراء" التريكات والسرج والزيرة(= جمع زير)", إلى دبغ الجلود لإنتاج القرب والسقا, إلى تكلفة ملء التريكات بالغاز, والسِرْج بالكيروسين(=القاز), إلى شراء الفتايل(= جمع فتيلة), بأنواعها, ذلك, أن للتريك فتيلة خاصة به, وللسراج فتيلة خاصة به, بالإضافة إلى تكلفة صيانة تلك الأدوات, أو استبدالها بأخرى متى ما توقفت عن العمل, وما أكثر ما فعلت على حين غرة من ظلام دامس! هنا أستطيع القبض على تأويل ملائم يؤهلني للتحول من الهجوم إلى الدفاع, لأقف محامياً عن معالي الوزير ضد من انتقده, أو(شرِه) عليه, أو أخذ على خاطره منه, أو تهكم على كلامه, بأن أقول لهم: على رسلكم, فمن النصفة بمكان ألا تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين, إذ إن معاليه لم يكن يقصد حين تحدث عن انخفاض تكلفة الكهرباء, "كهربكم" الحالي, إنما قصد, تحديداً, تكلفة( التريكات, والسرج, والغاز, والقاز, والفتايل, والقِرَب والزيرة!), بل, إنه لم يدخل في حسبانه حتى تكلفة طيبة الذكر(لمبة الصفر),عند حسابه لمتوسط تكلفة الكهرباء التي أحلت الخطوب في داركم, فظننتم ظن السوء, وكنتم قوماً بورا!, فلا تأخذكم الرجفة فتصبحوا في داركم جاثمين, نتيجة تأويلكم الخاطئ لحديث معاليه, إذ إنه عفا الله عنه لمَّا يزل عزيز عليه ما عنتم, حريص على جيوبكم أن تمتد إليها حمى الاستنزاف! ولقد يتساءل الفضوليون والسامدون والساخطون, عن الحكمة من تذكر معاليه لأيام (الفتايل والسرج والقاز) في زمن الكهرباء الحديثة, أهو حنين لأيام الصبا, أم أنه مجرد حديث من أحاديث النفس؟ فأقول لهم: لا ذا ولا ذاك, فلقد أراد معاليه أن يستعين بالتلميح والمجاز لإيصال موعظته, ولهذا, لما أراد أن يحثكم على خفض تكلفة استهلاككم من الكهرباء الحقيقية, لم يجد أنسب من تذكيركم بالتكلفة الزهيدة( نسبة للزمن الحالي) التي كان أجدادكم يتحملونها في سبيل إمداد بيوتهم ومخادعهم ومزارعهم ومساجدهم بالطاقة, فتحاولون أن تقتدوا بهم في العودة إلى"كهرباء!" تلك الأيام, بدلا من أن تُسخطوا معاليه في الحديث عن تخفيض تكلفة الكهرباء, وأنتم لما تزالوا تحصلون عليها بما يشبه"البلاش!" ها أنذا بفضل اللجوء إلى آلية التأويل, تحولت من النقيض إلى النقيض, من ناقم على الوزير, إلى مدافع عنه, لأني لا أستطيع, كما غيري ممن سمعوا أو قرأوا حديثه, أن أصرف مقصد معاليه إلى تكلفة الكهرباء (الحديثة!), التي لا أحسب أن ثمة من يجادل في أن متوسط الاستهلاك الشهري منها في المملكة لا يقل بأي حال عن خمسمائة ريال على الأقل , لذا, لم يك بد من التوسل بالفتيلة وأخواتها, علها تضفي شيئاً من المعقولية على حديث الوزير الذي سارت به الركبان بين مؤول ومُصحِّف. حدثني من أثق به قائلاً ً: ما أن قرأت حديث الوزير عن تكلفة استهلاك الكهرباء, حتى خيل لي أن معاليه قصد بها استهلاك تلك الدويرات الشعبية, التي تشبه مفاحص القطا, والتي لا يوجد فيها إلا بضع نجفات أو لمبات. ولذلك, طفقت أحسب متوسط استهلاك (دويرة) لي, نطلق عليها أنا وعائلتي اسم"استراحة" على سبيل المجاز, وبعد مراجعة فواتير استهلاكها من الكهرباء لمدة نافت على السنة, وجدت أن متوسط ما استهلكته لم يقل عن ثلاثمائة ريال في الشهر, رغم أننا والكلام لا زال لصاحبي لا نشد إليها رحالنا إلا ليلتي الخميس والجمعة من كل أسبوع. وبعد أن هدأت من روعه قلت له: " ترى ما لك إلا الفتيلة والسراج والقاز, والقربة",أنصحك بالتسلل إليها لواذاً حتى تجد حلاً معقولاً لمثل هذا التناقض, فكان أن عاد إليه هدوءه, وقال بلهجته القصيمية الدارجة" زاد أنا قايل: أبو عبدالرحمن(يقصد الوزير) وليدة, وحببيِّب ما يمكن يخذرف مثل هالخذاريف التي تتك(= تُضيِّق) الخِلقْ( = الصدر)". أما أنا فأؤكد لمعاليه بعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة, أن المستهدفين بشريحتيه على استعداد لأن يضاعفوا قيمة متوسط الاستهلاك التي أشار إليه أربع مرات, بشرط أن يثبتها لهم كمتوسط استهلاك شهري دائم, فهل سيوافق؟ وليسمح لي معاليه أن أذكره قبل أن يدرك شهر زاد الصباح, فتسكت عن الكلام المباح, بتلك القصة الطريفة التي يتداولها أهل نجد كلما ألمت بهم سنة من السنين. تقول القصة:إن أحد صبيان أحد البيوت المخملية النجدية راق له أن يتنزه ذات صباح شات, فطفق يعرض رغبته على أحد صبيان جيرانه في الحي الذي يسكن فيه, ممن كانوا يصطلون بشدة المؤونة وجور السنين, رفض الصبي الفقير فكرة صاحبه معللاً رفضه بعدم قدرته على التنزه في البرد القارس, فلم يكن من الصبي المخملي إلا أن عرض على رفيقه أن يعود أدراجه إلى بيت أهله, فيأكل" حنينيا ويلبس جوخة", ليستطيع اتقاء البرد, ومن ثم يتمكن من اللعب معه, رد عليه الصبي الفقير بلهجته المحلية:" هاذولي(= تلك) أسمع بهن, وما عمري شفتهن, يقولون إنهن يلقن (=توجد) بس ببيوت الشيوخ!", فاستغرب الصبي الثري, وقال لصاحبه" الحنيني وقل لأمك تصلحه لك, والجوخة موجودة بالدكان قل لابوك يشرِيَهْ(= يشتريها) لك". وأحسب أن القصة معبرة بما يغني شهر زاد عن تفسيرها.