يعد قرار الكشف المبكر عن الأمراض أياً كان نوع حِّدتها إحدى القرارات المؤجلة لدى شريحة كبيرة من المجتمع، وربما كانت مستبعدة تماماً من قائمة الاهتمامات، لا سيما وأننا اعتدنا على أن لا نذهب إلى المستشفيات والمستوصفات إلاّ بحثاً عن «العلاج» وليس «الوقاية»، حتى وإن كنا نسمع ونشاهد من وقت إلى آخر مواقف وقصص من المجتمع ممن اكتشفوا أنهم مصابون بأمراض تغلغلت في أجسادهم دون أن يعلموا، حتى جاءت «الصدمة» ولكنها مع الأسف وصلت متأخرة، مما جعل نسبة الشفاء تكاد تكون ضئيلة. «الرياض» تناقش مفهوم تعزيز الصحة ومسؤولية غيابه عند الكثير من أفراد المجتمع، والحلول المقترحة لرفع درجة الوعي بأهمية الفحص المبكر في ظل تعدد أمراض العصر. مفهوم حديث تعبنا وحنا نقول الوقاية قبل العلاج.. والفحص المبكر «ما يضرّ»..لكن ما عندك أحد في البداية بيّن «د.طارق البلوي» -استشاري أمراض باطنية ومساعد المدير العام للطب العلاجي في صحة تبوك- أن مفهوم الكشف المبكر عن الأمراض يعد مفهوماً حديثاً، حيث أن في السابق كانت الأمراض نتاجاً لنقص الغذاء والدواء، بينما الآن بسبب الوفرة، مشيراً إلى أن الأمراض المزمنة سواء كانت مرتبطة بنمط الحياة مثل الضغط والسكر والسمنة، أو بوجود مؤهلات معينة كما في الأورام، أو بسلوكيات كما في الأمراض المعدية، جميعها يمكن توقعها والتنبؤ بحدوثها عبر ما يمكن وصفه ب»التصنيف للقابلية»، وهي بمعنى أن يرسل مرضاً ما علامات معينة توحي بقدومه، وهذه العلامات عادة ما تكون مختبرية تُكتشف عن طريق إجراء فحوصات شاملة مثل تحليل الدم والبول والأشعة وغيرها، مؤكداً على أن الإشكالية الحقيقية تكمن في وعي المجتمع تجاه «الكشف المبكر» ودوره في الوقاية من المرض، أو علاجه مبكراً. تفاقم الأمر وأكد «د. بسام صالح بن عباس» -استشاري أمراض الغدد الصماء والسكري بمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث- على أن الغالبية العظمى من مرضى «السكري» في المملكة اكتشفوا مرضهم عن طريق «الصدفة»، مشيراً إلى أن الإيمان التسليمي يتغلب على الجوانب الأخرى عند الغالبية العظمى من المرضى، وقد يستمر البعض «لا يصدق» هذه الحقيقة، وبالتالي لا يقبل على أخذ الخطوات اللازمة لعلاج المرض أو تفادي مضاعفاته، لتصبح المشكلة مشكلتان، التأخر وعدم الاعتراف بوجود المرض، مما يؤدي إلى تفاقم الأمر. مستوى تعليمي وأرجع «د.خالد النمر» -استشاري أمراض القلب وقسطرة الشرايين وتصوير القلب النووي- أسباب غياب ثقافة الخضوع للفحص المبكر والشامل في مجتمعاتنا إلى المستوى التعليمي للفرد، وبالتالي التأثير المباشر على مستوى الثقافة الصحية المكتسبة، وكذلك قصور دور المناهج التعليمية في تبيين أهمية الفحص المبكر، وعدم كفاية الجهود المقدمة من المتخصصين وجمعياتهم العلمية في الخروج للمجتمع، وأداء دورهم في نشر الوعي الصحي وترسيخ مبدأ الفحص الطبي المبكر، مضيفاً أن الكثير من المرضى يرفض فكرة إجراء الفحص الدوري أو الشامل عند مصارحته بمخاوف وجود مرض معين، فالبعض منهم يبدأ بالإنكار التام لوجود ذلك المرض والانقطاع عن زيارة الأطباء، أو يبدأ بزيارة أطباء متعددين وبمستويات مختلفة «طبيب عام مثلاً» لعله يجد من يطمئنه، مشيراً إلى أن هناك فئة أخرى راحت تستشهد ببعض الأمثال القديمة التي تؤيد عدم المبالاة بالصحة مثل: «شيء ساتره الله ليش أكشفه»؟، و»اللي يروح طبيب صاحي، يطلع بعشرين علّة»!، مطالباً بأهمية تشجيع «الثقافة الفردية الصحية» في وسائل الإعلام المختلفة، مع وضع ثقافة الفحص المبكر في المناهج الدراسية، وأهمية دورالأطباء وجمعياتهم العلمية في تثقيف المجتمع من خلال عقد الندوات العلمية، واستخدام وسائل الإعلام المختلفة في إيصال تلك الرسالة، معتبراً «الإلزام» بالفحص المبكر يحتاج إلى تهيئة اجتماعية وثقافية للمجتمع قبل فرضها. دور المؤسسات وأشار «د.عدنان بن أحمد البار» -أستاذ طب الأسرة والمجتمع بكلية الطب بجامعة الملك عبدالعزيز- إلى أن مفهوم «الكشف الطبي المبكر» موجود منذ زمن طويل، مستشهداً بمقولة: «الوقاية خير من العلاج»، متسائلاً عن دور المؤسسات الصحية المعنية مثل «منظمة الصحة العالمية» و»الاتحاد الدولي لأطباء الأسرة» في دورهم تجاه تعزيز صحة المجتمع، وكذلك تفعيل الفحص الوقائي، حيث أنهم توصلوا إلى آليات واضحة تحقق إيجاد أطباء مؤهلون لتنفيذ هذا العمل الذي يجب أن يكون مستقلاً ومقترناً بقناعة المجتمع، كاشفاً أن الدراسات الحديثة تقسم المجتمع إلى ثلاث مستويات، (40%) منهم ليس لديه مشاكل صحية كبيرة، بل ولا يحملون بذور مشكلات صحية قديمة، و(40%) ليس لديهم مشكلات صحية كبيرة، ولكن هناك احتمالية تعرضهم لإصابات وأمراض معينة، أما (20%) المتبقية فهم الذين يعانون من مشكلات صحية وأمراض قائمة، وبالتالي أصبح هناك (80%) من أفراد المجتمع بحاجة إلى نصائح طبية وخدمات صحية مبكرة، مبيناً أن «أطباء الأسرة» هم من يعول عليهم بافتتاح مثل تلك العيادات التي تسمى عيادات «الوقاية السريرية»؛ لتعزيز الصحة، حيث لاتزال تلك العيادات محدودة جداً في جميع مناطق المملكة، مشدداً على أهمية تعزيز مفهوم الصحة الوقائية في المجتمع. تجربة ناجحة وشددت «د.خديجة محمد الصغير» -استشارية بمستشفى الملك خالد بتبوك- على ضرورة تعميم تجربة الفحص المبكر لجميع الأمراض، مؤكدة على أنه يوجد نجاح لتلك التجربة فيما يخص مرض «سرطان الثدي»، والذي ساهم المجتمع والقيادات الطبية في تسخير كل ما هو من شأنه نجاح تلك الحملات، لاسيما وأن الطريق الوحيد والمؤثر في علاج ذلك السرطان، هو الاكتشاف المبكر، حيث تصل نسبة الشفاء منه إلى (95%)، مبينةً أن درجة الوعي والإقبال لدى النساء في المملكة ارتفعت بعدما شاهدن برامج التوعية والحملات المنظمة التي كان آخرها «حملة البيت الوردي» تحت شعار «ولأنك أنتِ الأساس»، حيث استطاعت المرأة أن تكسر حاجز الخوف من هذا الفحص، وأقبلت بكل قناعة وإقبال. انتحار بطئ وتحدثت «د.ناهده عبد الواحد الزهير» -المدير العام لمركز معارف الصحة للاستشارات الصحية والتدريب والبحوث بالدمام- قائلةً: أنه كلما تطور المرض فإنه يستعصى علاجه، وكلما تشعب فإن العلاج يتحول إلى سلسلة من الجلسات العلاجية المطولة، متسائلةً: لماذا لا نحسن الظن بأن الكشف المبكر والشامل سيعطينا راحة عندما نتأكد من أننا أصحاء، مؤكدةً على أن السكوت عن المرض «انتحار بطئ» وقرار غير حكيم، مشيرةً إلى أن هناك أمراضاً تظهر عوارضها بشكل بطيء وغير ملحوظ، فيتوهم المريض أن مرضه كان مفاجئاً، وأنه اكتشفه بدون سابق إنذار، والحقيقة أن الأمراض بشتى أنواعها تأخذ مراحل تختلف من مرض إلى آخر بعوارض وتغيرات غير متشابهة، مبينةً أنه فقط في الحوادث هي من نعتبرها مفاجأة كالحرق والسقوط والجروح. مرة أو مرتين وأوضحت «د.ناهده» أن الفحص الشامل يفضل أن يتم سنوياً من مرة واحدة إلى مرتين، هذا في حال تمام الصحة، أي كل (6) أشهر أو على الأقل مرة في السنة، مضيفةً أن الكثير من الأصحاء والمرضى يجهلون الكثير عن حالتهم وعن مفهوم الصحة العام، وبالنسبة للمواطن العربي تحديداً فإنه ينقصه التبصر في شؤون الصحة من مصادرها الحقيقة والعلمية، لا أن تكون نصائح يتناقلها الناس ويشخصونها ويعالجونها، ذاكرةً أن العزوف عن الاطلاع والقراءة والبحث في الشؤون الصحية، يجعل الأمور التثقيفية في أقل مستوياتها، مشددةً على الوقاية ثم التزود بالمعلومات الصحية والطبية من مصادرها، مع الاطلاع على المزيد من الثقافة الصحية. كشف مستمر وقالت «سارة العنزي»: إن البحث أحياناً في أمور الصحة والكشف سريعاً عن المرض قد يكشف لنا شيء نحن في غنى عنه، بل ولا نريد معرفته، مضيفةً أنه قد يحمل الشخص مرضاً معين ولا يعرفه، لكن ما إن يكتشفه سرعان ما يؤثر به، خاصةً من الناحية النفسية. وأوضحت «رهام محمد» أن الكشف عن الصحة شيء مهم جداًّ، والكشف الدوري كل (6) أشهر يبعث بداخلنا الراحة الجسدية والنفسية، مضيفةً أنه لو اكتشفنا إصابتنا بمرض معين لا سمح الله، فإننا نستطيع القضاء عليه ومعالجته بشكل قياسي، خلافاً عن السكوت عنه وكشفه في مراحل متأخرة. وأرجعت «نجلاء محمد» سبب قلة الوعي وعدم الاهتمام بالصحة والعناية بها، إلى عدم وجود التثقيف، وكذلك الإهمال من قبل الجهات المختصة كالمراكز الصحية، مؤيدةً الكشف المستمر، وأنه مهم في هذا الزمن؛ بسبب تفشي أمراض صامتة وخطيرة تسري في الجسد دون العلم بها، كالسرطان، مشيرةً إلى أنه عند اكتشافه سريعاً نستطيع القضاء عليه بشكل سريع، خلافاً عند اكتشافه متأخراً. خطورة المرض وقالت «مها الشايع»: إن الخوف من الكشف الدوري قد يكون بسبب تراكمات من أحاديث سابقة بخطورة الأمراض وصعوبة علاجها، مما يجعل الإنسان يتردد بالكشف؛ خوفاً من المواجهة. ووافقتها الرأي «أريج عبدالعزيز» قائلةً: لو اشتد الألم لا أفكر بالذهاب إلى المستشفى؛ نظراً لعدم ثقتي بالمستشفيات الأهلية، ولعدم توفر مواعيد قريبة في المستشفيات الحكومية. وذكرت «منيرة عبدالرحمن» أنها لا تهتم بالكشف الدوري إلاّ على الأمراض المنتشرة؛ خوفاً من تفشيها وأكدت «ريام ناصر» على أن الكشف الدوري قد يظهر لنا أمراضاً نحن لا نريدها، مضيفةً أن السكوت أفضل حل لذلك؛ لأن بعض الأمراض مثل «السكري» و»الضغط» وغيرها، قد تكون وقتية وتزول، مشيرةً إلى أنه عند البحث عنها واكتشافها، فقد نستخدم أدوية تظل معنا مدى العمر. الفحص المبكر يقي من الإصابة بسرطان الثدي