على ضآلة حجمه يبدو الفأر مخلوقا بالغ الذكاء خاصة حين تتبدى حيله وبراعته في المراوغة أمام قط غبي يغريه جبروته على البطش بالصغير المسكين بسبب أو بدون سبب، والذين يتابعون حلقات الكرتون الشهيرة "توم وجيري" يشدهم إليها براعة الفأر في مواجهة جبروت المعتدي الأثيم، ودائما ما ينتصر الصغير، ربما لأنه صاحب حق في أن يعيش ويدافع عن حياته في ملكوت الكون الذي يعج بكل مخلوقات الله. في قصة قصيرة لكافكا يتذكر الفأر طفولته وشبابه إلى أن أصبح يتمتع بحكمة الشيوخ، كان يتقافز من شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت في هوج الشباب، ولكنه في حكمة النضج أدرك أن الاستقرار في مكان واحد يهيأ له الأمن والسلامة لولا ان القط المتربص به بلا أدنى سبب إلا عداء من أجل العداء، يواجه كل أشكال الظلم والجبروت من رئيس يتربص به بلا أدنى سبب، أكاد أتصور مشاعر هذا الموظف البسيط، وألف "لماذا ؟" يوجهها لنفسه ويفشل في الإجابة، وهو مايزيد من فداحة المشهد، فالأرض التي تتسع للملايين تضيق بوجه بمواجهة وجه، والرزق الذي وزعه الخالق على كل عباده ومخلوقاته بعدالته عز وجل يكفي لكل خلقه، لكنه يشح في قلب المعتدي الأثيم رغم أنه لا ينال منه شيئا إذا حرمه على آخر. الخيارات التي تتعدد أمام كل الناس تتقلص أمام ذلك الموظف التعيس في خيارين: الاستكانة لجبروت الظلم أو الانتحار والراحة، ومع كل ذلك فاستمرار المشهد لا يعني، إلا أن الموظف البسيط يتمتع بذكاء مكنه من الاستمرار، وأن خصمه يتمتع بغباء يتنقل معه من حيلة فاشلة إلى حيلة أخرى أكثر فشلا. وما أغناه عن كل ذلك.. ربما في لحظة يفكر هذا الموظف البسيط مثل فأر كافكا أن عليه أن يغير إتجاه الفرار، أعني أن يبدل بالمكان مكانا آخر، وأن يستبدل بالوجه العابس وجها صبوحا، وأن ينتقل من عمله إلى عمل آخر وأرض الله واسعة، لكن الكارثة ما إن استدار لغير اتجاه فراره، فإذا بقط آخر يتلهف اقترابه، ليس بالضرورة أن يكون القط الجديد إنسانا فقد إنسانيته، وإنما يكفي عليه أن يتنازل عن بيت يملكه يحبه ويهواه، وأن يحرم أولاده من تعليم كان قد خطط له لمستقبلهم إلى تعليم لا يرضاه، وأن يغير مواقع كل الصحاب والأقارب والأصدقاء والأهل ومن ربطتهم به عشرة لا تهون إلا على أبناء الحرام ؟. قدمت لنا حلقات الكرتون الشهيرة كل فنون الحيل وأشكال الذكاء لفأر في مواجهة قط، ولكنها لم تقدم حتى الآن ما يكون عليه "فأر وقطان"، ربما استلهم منه صاحبنا وسيلة.