قلَّ أن حظي شاعر عربي في حياته بما حظي به الشاعر العراقي الراحل عبدالوهاب البياتي من متابعة وتكريم واهتمام نقدي. فلقد صدرت حول شعره عشرات الكتب والدراسات والبحوث والأطروحات الجامعية التي لم تترك مجموعة من مجموعاته إلا وتعهدتها بالتحليل والتشريح والتقريظ المفرط، الأمر الذي لم يتيسر ربما لأحد من الشعراء العرب باستثناء نزار قباني. ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على التقديم الأقرب الى الفهرسة الأرشيفية الذي وضعه عبدالعزيز شرف لأعمال البياتي الشعرية التي صدرت في طبعتها الثالثة عن دار العودة عام 1979 كي نشعر بالدهشة إزاء عدد الكتب والدراسات النقدية، فضلاً عن الترجمات المختلفة، التي يوردها الناقد المصري في مقدمة الديوان مضيفاً بما يشبه الاعتذار أن تقديمه ذاك «لا يتسع لما كتب عن البياتي في الصحف والمجلات العربية والعالمية والقصائد التي ترجمت الى كثير من اللغات العالمية ولدراسات المستشرقين وللكتب النقدية التي لا تزال تحت الطبع». هكذا كان الأمر إذاً قبل عشرين سنة من وفاة البياتي. لكن ما حدث خلال العقدين السابقين على وفاته أن كتباً ودراسات كثيرة أضيفت الى ما سبقها بحيث لم يكد يمر عام واحد من دون ان تضخ المطابع العربية كتاباً جديداً او اكثر حول صاحب «المجد للأطفال والزيتون». واذا كانت الاحزاب الشيوعية العربية، وظهيرها العالمي بالطبع، قد اسهمت الى حد بعيد في الترويج لمن رأت فيهم أحصنة شعرية رابحة في مواجهة الامبريالية والرجعية المحلية، كما في مواجهة الشعراء «المرتدين» عن ولائهم الأول من مثل بدر شاكر السياب، فإن البياتي نفسه كان يعتني بتظهير صورته الى حد الافراط بحيث كان يتولى بشكل شخصي متابعة كل ما يكتب عنه من مقالات او مقابلات صحافية ويجمعها في كتب وإصدارات مستقلة. لا يعني ذلك بأي حال محاولة للنيل من موهبة الشاعر أو للتقليل من دوره في ريادة الحداثة العربية بمقدار ما يعني محاولة سريعة للوقوف على السبب الفعلي لذلك الصمت المطبق الذي أحيط به الشاعر بعد رحيله قبل عشر سنوات، وفي مثل هذه الأيام بالذات، بما لا يتناسب على الإطلاق مع الدوي والصخب المقابلين اللذين أحاطا به حياً وجعلاه واحداً من الشعراء العرب الأكثر نجومية لعقود غير قليلة من الزمن. والطريف في الأمر أن تلك النجومية لم تكن متأتية عن كاريزما شخصية استثنائية كما هي الحال على سبيل المثال مع شاعرين كبيرين كنزار قباني ومحمود درويش. كما أن البياتي لم يكن شاعراً يهز المنابر كغيره من شعراء الأيديولوجيا والتحريض السافر والتبشير العقائدي، ولا كان يتمتع بموهبة الإلقاء الناجح والمؤثر كما هي حال أدونيس وقباني ودرويش، بل كانت تلك النجومية متصلة على الأرجح بحقبة المواجهة الضاربة بين قطبي العالم وحاجة أحدهما الى الاستثمار بالثقافة وتوظيفها المتصاعد في مواجهة القطب الآخر. وهو ما انعكس عبر الترويج شبه التعليمي للواقعية الاشتراكية وتأسيس اتحادات محلية للكتاب، وأخرى قارية من مثل اتحاد كتّاب آسيا وأفريقيا، وإنشاء جوائز تمنح في الأعم الأغلب لغايات عقائدية مثل جائزتي اللوتس ولينين. ومع ذلك فإن السؤال عن الصمت الذي غرق فيه اسم البياتي اللامع بعد رحيله، والذي يكاد يقارب النسيان لولا المرور على اسمه كواحد من ثالوث الريادة الشعرية، يظل قائماً ومشروعاً وشديد الإلحاح. ذلك ان هزيمة الأيديولوجيا لا تعني بالضرورة هزيمة الإبداع المصاحب لها لأن الإبداع الحقيقي يخترق من حيث يعلم صاحبه أو لا يعلم جميع الأسقف الموضوعة له، زمنية كانت أم مكانية أم سياسية. وإذا كان سحب البساط العقائدي من تحت أرجل الشعراء قد أدى الى إسقاط كثر منهم كما هي حال أيمن أبو شعر وعبدالرحمن الخميسي وآخرين فإن سحب هذا البساط لم يؤثر بأي وجه في التقليل من قيمة المواهب الشعرية من وزن بابلو نيرودا وبول ايلوار وناظم حكمت ولويس أراغون. قد يكون عبدالوهاب البياتي من أكثر الشعراء الذين نجحوا في اطلاق السجالات الحامية مع منافسيه المفترضين من مثل نزار قباني، أو أدونيس الذي لم يرد عليه مرة واحدة، ومن أبرع الشعراء في تأجيج المعارك الشخصية مع الخصوم، لكن ذلك لا يجب أن يدخل في حساب الشعر وفي تحويل رحيله الجسدي الى فرصة سانحة لتصفية الحساب مع الرجل ونتاجه وإرثه الشعري. وقد يكون الخرس النقدي الذي أعقب وفاته هو بشكل أو بآخر رد فعل جماعي على التضخيم السابق لصورته حياً، ولكن الأوان حان ربما لإعادة قراءة الشاعر قراءة موضوعية ومتفحصة بعد أن باتت خصوماته ومعاركه ونرجسيته المتضخمة في عهدة الموت. وعلينا أن نتذكر في هذا السياق ان البياتي كان متنوع الحضور والمقاربات الرؤيوية والتعبيرية وأنه لم يحصر شعره بالترويج العقائدي وحده كما في «عشرون قصيدة من برلين» بل كثيراً ما التقى بنفسه في تجارب صادقة وجميلة مثل «أباريق مهمشة» و «الذي يأتي ولا يأتي» وغيرها. هل كان البياتي يعلم في قرارة نفسه أن الزمن لن يكون منصفاً له بعد رحيله كما أنصفه في حياته؟ نقرأ في مقدمة ديوانه هذا البيت الذي يشبه النبوءة: «اليوم قمرٌ وغداً في الصقيع/ تطمر ريح الليل ديواني»!