هكذا تحاول إسرائيل، وما ادراك ما تملك من وسائل إعلامية، أن تقول للعالم ان المشكلة ليست بين إسرائيل والعرب بل بين العرب المسلمين وكل آخر. لا فرق بين أن يكون صهيونياً يهودياً او مسيحياً، وحتى مسيحياً عربياً ما دام هو ليس من ثقافة ودين الغالبية من العرب. رغم الانشغالات السياسية الملحة في عقول اللبنانيين ومشاعرهم ووحدة صراع المواقع بين ممثلي الطوائف وداخلها، وربما بسبب ذلك ظهر اهتمام خاص في لبنان داخل أوساط المثقفين بمئوية رحيل مفتي الديار المصرية الشهير الشيخ الامام محمد عبده الذي اقترن اسمه بفكرة الاصلاح الديني والتسامح الديني والتقريب بين المذاهب. وقد أقيمت لذكراه احتفالات مؤخراً في بعض نوادي لبنان الثقافية، بما يعكس اعجاب اللبنانيين جميعاً بروحية وفكر هذا الاسلامي العلم. والمعروف أن محمد عبده قضى في لبنان فترة غير قصيرة وقد قام بتدريس كتابه الأشهر «رسالة التوحيد» في زاوية أبي النصر القريبة آنذاك في ساحة البرج التاريخية. كان في لبنان منفياً يتنقل بين عاصمة الولاية أي بيروت وقرية عيناب في منطقة الغرب الشوفية، وكان أعيان المدينة وغيرهم يأتون الى زاوية أبي النصر ليستمعوا الى دروس الشيخ، المرتسمة في الذاكرة التاريخية للبنان. لم يقصر نشاطه وصداقاته على أبناء دين واحد أو طائفة. وكان من أبرز أصدقائه ومحاوريه الشيخ السيد رشيد رضا من طرابلس والأمير شكيب أرسلان والمطران دبس، وغيرهم الكثير. كان لافتاً تعامله منذ ذلك الزمان مع التعدد اللبناني كنقطة قوة للمجتمع وكنز يغرف منه الجميع ويغتني به. رأى في لبنان ذلك الزمان مصراً أخرى بمسلميها وأقباطها، ورشح مصر ولبنان اللذين كان ملامحهما كقطر قد تأكدا ليكونا معاً جناحين للنهضة العربية. كان رجل دين ورجلاً عاماً كما يقال بالفرنسية ورجل سياسة، وإذا كانت السياسة كثيراً ما تفسد مفهوم الدين الصحيح عند البعض، فإن السياسة في حالته جاءت ذات أثر حميد عليه بتوسيع نظرته الى الدين نفسه. لعب الدين الآخر وهم النهضة دوراً في توسيع آفاق فكره وتكبير دوره. آمن بأن الاصلاح الديني والانفتاح توأمان لقضية واحدة. نهج طريق المصالحة بين الأديان وتعظيم الدور المشترك بينها دون حجب نقاط الاختلاف. من رواد دعوة المصالحة بين المذاهب والأديان والانفتاح على أسرار التقدم، حيث هي في تجارب الآخرين. الغربيين الفرنسيين على الخصوص وغير الفرنسيين ممن عرفهم او اطلع على انتاجهم. من يدرس تاريخ مدينة بيروت وجبل لبنان في نهضتهما الموصلة في ما بعد الى لبنان الوطن يلفته بقوة الترابط الايجابي عنده بين ثالوث هو مصر ولبنان وفرنسا. فمع دخول ابراهيم باشا المصري مدينة بيروت، عاشت المدينة والجبل اللبناني اندفاعا كبيرا على طريق التمدن الحديث، إذ تشكلت في مدينة بيروت طريقة حياة مسيحية اسلامية شملت منذ ذلك الوقت السياسة والتعليم وجرى فيها انتخاب مجلس بلدي اسلامي مسيحي الى جانب ازدهار المطابع الحديثة الأمريكية والفرنسية واستقرار حكم القانون بمعناه القاموسي وتجلياته العصرية. كانت السلطة التركية العثمانية قد خرجت عملياً لفترة ليحل محلها جيش ابراهيم باشا المصري وأصدقاؤه الفرنسيون وقراراته الانفتاحية المعطوف عليها من الأهالي ومن الغرب وبعض المتنورين من الترك أنفسهم الذين كانوا في تلك الفترة حكام البلد المنظور اليه من بعض العثمانيين كنموذج صالح لمواجهة تحديات الغرب المتفوق وروح العصر. ليست المصالحة بين الأديان والثقافات قضية رجال الدين المتنورين على غرار محمد عبده فقط، بل هي قضية تتطلب مناصرة جميع العرب بدءاً باللبنانيين ذوي الخبرة الكيانية بهذا الموضوع وهي خبرة عربية المردود الايجابي بقدر ما هي لبنانية واعية. منذ قيام إسرائيل صارت القضية المتمثلة بحياة محمد عبده وفكره ونوع اسلامه أشد ضرورة، بل إن كثيرين من اللبنانيين المتنورين على غرار ميشال شيما باتوا مؤمنين بأن انجاح مسيرة لبنان الوطن المستقل هي السلاح الأمضى ضد الأفكار التي تدأب إسرائيل على نشرها في العالم، بالادعاء أن رفضها كدولة من قبل المنطقة العربية الاسلامية بأكثرها هي ظاهرة رفض للآخر، أي آخر وليس للصهيونية او اليهودية فقط. لقد اكتشف الكثيرون من المسيحيين العرب كما المسلمين قبل ميشال شيما ان هناك علاقة وثيقة بين انجاح لبنان الوطن المستقل العربي ودحض مدعيات إسرائيل بأن الاعتراض على قيامها آت من رفض العرب لأي آخر بدليل أن لبنان بسبب الكثرة المسيحية فيه يستمر مرشحاً بصورة دائمة لانكار حقه بالوجود والعمل بصراحة او مواربة على تقويده والغائه. فالدعاية الإسرائيلية تتوجه باستمرار الى العالم الغربي بالقول أن المرفوض من العرب من خلال اعتراضهم على إسرائيل ليس الصهيونية او اليهودية فقط، بل كل آخر غير مسلم في المنطقة بدليل حسب ادعائهم عدم السماح لبلد عربي كلبنان بأن يعيش حياته كوطن مستقل شأنه شأن غيره من الأوطان العربية. هكذا تحاول إسرائيل، وما ادراك ما تملك من وسائل إعلامية، أن تقول للعالم ان المشكلة ليست بين إسرائيل والعرب بل بين العرب المسلمين وكل آخر. لا فرق بين أن يكون صهيونياً يهودياً او مسيحياً، وحتى مسيحياً عربياً ما دام هو ليس من ثقافة ودين الغالبية من العرب. ولعلها تعتمد لترويج هذا المنطق على مصالح وأطماع في أرض العرب وثرواتهم عند دول بل قارات ذات مصلحة في تصديق هذه الدعاية الإسرائيلية وترويجها سواء لمصلحة إسرائيل او لمصالح ذاتية استعمارية، ليست نادرة ولا ضعيفة، سواء في أمريكا او في أوروبا او غيرهما. إن أصواتاً تخرج دائماً من إسرائيل ومن أصدقاء وعملاء لها في كل دول العالم ولا سيما الدول الغربية المتقدمة، قائلة: انظروا ما حصل ويحصل مع لبنان، أليس هذا دليلاً على أن سبب رفضنا ليس فينا بقدر ما هو في النظرة العربية الى الآخر الاجنبي، أي آخر سواء كان يهودياً او مسيحياً من غير دين الأغلبية العربية المسلمة. هذه الطريقة الصهيونية في مخاطبة العالم مصرة على استغلال أي مشكلة موجودة في العالم العربي او أي خلاف ولو على تفصيلات بسيطة بين العرب وآخرين لتؤكد على نقطة واحدة هي ان العرب لا يطيقون آخراً بينهم، سواء كان يهودياً او كردياً او عربياً من دين او طائفة اخرى او مذهب غير مذهب الغالبية. إن الصهيونية والمرتبطين معها يتصيدون كل واقعة سلبية في وقائع العالم العربي ليقولوا ان مشكلة العرب هي عدم تحول الآخر سواء كان هذا الآخر صهيونياً او يهودياً او حتى مسيحياً او مجرد غير عربي. إن العرب موضوعيون تحت المجهر الصهيوني للافادة من كل خطأ في التعامل مع أي أقلية داخل العالم العربي، دينية او عنصرية، لتناولهم بشكل منهجي وتصويرهم كغير راغبين بالتعايش او التساهل مع أي مختلف عنهم باللغة او الدين او منهج الحياة. إن الصهيونية هي شكل من أشكال الاستعمار المختص بالعداء للأمة العربية وللدول العربية وللعرب مسلمين ومسيحيين وحتى يهود، وهي ترفض أن تسلم بأن أي خلاف بين أي عربي وآخر غير عربي يمكن أن يكون مصدره الآخر لا العربي. لذلك تعمل الصهيونية على توظيف أي خلاف يقوم بين العرب وآخرين لمصلحة المخطط الصهيوني، فقضية كقضية الأكراد في العراق او الآشوريين هي دليل على عدم استعداد العرب لقبول الآخر سواء العنصري او اللغوي او الديني. فالأكراد، أي أكراد كانوا، على حق في أي مشروع، وكذلك الآشوريون، بل المسيحيون العرب أيضاً إذا كانوا يحملون أية فكرة او أي توجه سلبي تجاه الكيان العربي، سواء كان هذا الكيان قطرياً او قومياً شاملاً. كل الآخرين على حق في كل ما يفعلون في المنطق الصهيوني ما داموا يقفون في جانب والمصلحة العربية القومية في جانب آخر. من هنا الصعوبة الخاصة في الطريق العربي الى التقدم والاتحاد والتضامن، فبالاضافة الى القوة الدولية للغرب على العرب أن يواجهوا التركيز الصهيوني والتخصص الصهيوني بالعداء للعربي في أي مشروع من مشاريعه الوطنية والقومية. وفي أكثر الحالات تكاد تكون الصهيونية ناجحة دولياً في تصوير أي خلاف عربي مع أي آخر بأنه عدوان عربي على هذا الآخر، سواء كان هذا العربي في فلسطين او في العراق او في لبنان، إذ القاعدة أن الآخرين ما داموا غير عرب او غير حاملين لمشروع عربي هم مصيبون دائماً في أي خلاف.