منذ أيام ونحن عائدون من السفر في مطار الملك عبدالعزيز توقفت أمام سيارة ليست سيارتي واندفعت إليها لا شعورياً ومعي والدتي التي هي أيضاً اتجهت ربما لأنها معي إلى السيارة أو لا شعورياً أيضاً، وأنا أقف أمام الباب الخلفي تأكدت انها مغلقة وخالية من الركاب. وتنبهت أيضاً إلى ان السيارة ليست سيارتي وإنما كانت لي سيارة مثلها في اللون والموديل وظلت معي لسنوات لكن عندما أدخلها السائق في دائرة الورش والصيانة والخراب اليومي وأصبح مصروفها يتجاوز قسط سيارة جديدة شهرياً تخلصت منها ولكن على مضض لارتباط الأسرة بها حتى الصغار الذين افتقدوا وجودها تحت باب المنزل وهم من اعتادوا عليها. تخلصت منها وحاولت يومها كما أتذكر أن اعتبر ان الأمر عادي وأن ما يتعبك عليك أن تغلق الأبواب عليه، وتتخلص منه وتريح رأسك، ومرّ على الأمر أكثر من عام، لكن في تلك اللحظة تذكرتها، وأيضاً اكتشفت أن أمي تتغزل فيها وكأنها بشر عاش معنا، وعلى طريقة الحب للحبيب الأول، قالت سيارتنا اللي راحت لا يعوضها أحد ظلت معنا، وخدمتنا، والقديم لا يوجد مثله، قلت لها صحيح انها كانت كما تقولين قوية وأحسن من السيارات الحالية لكن يا أمي اتعبتنا في الآخر وانهدت، قالت: كان صبرنا عليها. الفكرة في الأمر ليس التركيز على التفاعل مع الماضي من خلال الإبقاء على سيارة متعبة، أو التخلص منها، ولكن الحنين إلى النكد، والارتباط به كثقافة تسيطر على البعض، الارتباط بالهم والوجع على اعتبار اننا نعرفه، ولا نعرف القادم مهما كان جيداً أو رديئاً، ولكن في النهاية سيبدو غامضاً. كثير من الأشياء نحتفظ بها ونبقيها على اعتبار اننا نعرفها مهما كان سوؤها، نعرف العيوب، ونعرف ملابساتها، وبالتالي البحث عن غيرها والحصول عليه يظل لا يتناسب مع الموجود رغم مرارته. في طريقة تسيير الحياة يعجز البعض عن ملامسة التغيير حتى وإن فكروا فيه رغم كل الألم والوجع الذي يصاحب الحياة التي يتداخلون معها والسبب أنهم على الأقل يعرفون ما هم فيه، ولكن لا يعرفون ما سيأتي، أو ما سيكون هناك. في السفر تتحول الرحلات أحياناً إلى تنكيد وعدم استمتاع بالمدينة، أو الرفقة ومعايشة لما هو معروف ومعتاد، ومع ذلك يصر البعض على عدم التغيير رغم الفرص المتاحة ورغم امكانية ذلك، والسبب أن البلد الآخر لا أعرفه، ولم أتعود عليه، على الأقل أنا أعرف هنا. نخاف التغيير، بل وقد نرتعب منه! نخاف أن نذهب بعيداً، وقد نتوقف كثيراً ان فكرنا في الابتعاد ونمضي في الانغماس فيما نحن فيه. في الصداقات قد تجد أحدهم محتفظاً بشلة من الأصدقاء العائد الوحيد منهم هو النكد، والألم والهروب عند الأزمات، وانعدام الوفاء، هو يعرف ذلك ويصادق عليه، وعندما تحثه على التخلص منهم، وعدم الإبقاء عليهم، لأن الفائدة معدومة ولأن الضرر كبير، والتعب أكثر، والأزمات كشفت معادنهم على امتداد عمر الصداقة، يقول لك، والله اعرف كل ذلك، ومقتنع به لكن لا يمكنني ان أغيرهم، وأبدأ في معرفة آخرين مهما كانت أفضليتهم، لقد تعودت عليهم، رغم كل شيء، والصحيح انه تعوّد وأدمن التعب والهم والوجع، ولا يمكنه التخلص منه، أدمن البقاء في مكانه وأدمن متعمداً الامتزاج مع هؤلاء الأصدقاء غير الجيدين، والذين لا يضيفون إليه شيئا، أو من الارتباط بما لديه، بالماضي، بالحاضر، بالمستقبل لكن بنفس صور الماضي. هو ينطلق من مبدأ رفض التغيير، وتصالحه مع نفسه وايمانه بكل ما حوله رغم قسوته، رغم انه غير مجبر، أو مضطر لذلك، فالمصالحة مع النفس تعني المصالحة مع الحاضر حتى وإن تمسكنا بالماضي وأدمنا البقاء داخله. أتعاطف مع من يرون في فترة من أعمارهم انه ليس بإمكانهم التغيير وان فرصه أصبحت محدودة لأشياء كثيرة في الحياة لكن هذا المنطق يظل غير صحيح وموجع إذا آمنا به، وابقينا أنفسنا داخله، مؤلماً لأننا سنفقد الرغبة في الحياة، وسنبدد الطاقة التي نملكها على الأشياء الفارغة، ومن لا يستحقون. التغيير يظل ممكناً طالما هناك الرغبة والأمل، والقدرة على التعايش مع ما سيكون، التغيير ضروري إذا كان ما نعيشه وما نرتبط به يستحق تخطي كل الاشارات الحمراء لمغادرته. ليس ضرورياً الابقاء على ما نحن فيه ان كان سيواصل هطول آلامه ويكرّس أوجاعه! المهم في الأمر التفكير أولاً في التغيير، والايمان بعدم جدوى ما أنت فيه!!!