لحظات التقدير لا تغيب عن "مجتمع وقيادة" منحا الحضور الإنساني فرصة للظهور أمام العالم.. ليس زهواً بالفعل ولا انتظاراً لردة الفعل، ولكن هو الواجب المثقل بقيم "رد الجميل"، و"وفاء الذات"، و"شهامة الموقف".. هكذا هي الحياة تصنع أمامنا مفترق طرق، ومواقف، وأزمات، وربما كوارث - كما حصل في سيول جدة -، ومع كل ذلك نخرج منها ليس بحثاً عن العلاج، أو تجاوز السلبيات، بل أيضاً تكريم من شارك معنا في نجاح المسؤولية، وتضحية الروح، وبطولة الشرف؛ لنبقى معاً على مسافة واحدة من الوفاء والتقدير. سمو ولي العهد يعبّر عن إنسانية مجتمعه وأصالته في رد الجميل قبل أيام كان مشهد الحج مؤثراً.. ليس في تقرير نجاحه المعتاد كل عام، أو ضمان سلامة ثلاثة ملايين حاج يتحركون في محيط جغرافي محدود للغاية، أو حتى الانفراد بخدمات نوعية، ومشروعات عملاقة.. وإنما مصدر التأثير حين تجتمع القيم مع السلوك في تظاهرة إثبات على حسن التوجه والتقدير.. حدث ذلك في مساريّ إثبات (الأول) في منح الشهيد فرمان علي خان - رحمه الله - وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى الذي وافق خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز-حفظه الله- على منحه الوسام تقديراً لدوره في إنقاذ 14 شخصاً من الغرق، خلال السيول التي غمرت محافظة جدة عام 1430ه، حيث جرفته السيول واستشهد بعد أن كتب الله على يديه إنقاذ تلك الأرواح، والمسار (الثاني) خطاب الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" لخادم الحرمين الشريفين وتهنئته بعيد الأضحى، ونجاح موسم الحج، والتذكير بالجذور الإبراهيمية المشتركة للأديان السماوية الثلاثة، وإنسانية المسلمين في تبرعهم بالأضاحي للفقراء والمحتاجين، إلى جانب الاحتفاء بالاختلاف بين الناس كمصدر قوة. لم ينفرد بذاته في التعبير عن مشاعره الإنسانية وإنما برهن عالمياً وتاريخياً عن قيم مواطنيه وأصالة مجتمعه والرابط بين المسارين هو منهج المملكة الثابت قيماً وسلوكاً ووعياً أمام مستحضرات التغيير، وتهافت الشعارات، وسقوط أقنعة التزييف..المنهج المعتدل في رؤيته وشمول قيمه لكل مناحي الحياة.. المنهج الذي كسب احترام العالم بوسطيته، ولغة حواره، وعظيم إنسانيته..المنهج المنفتح على الآخر، والقريب من مشترك الإنسانية بين أديان السماء، والحاضر بمسؤولية الوعي لتجاوز مظاهر الانغلاق.. المنهج الذي صانه وتمسك به الملك عبدالله الرجل النادر في نوعية حضوره المسؤول، ووعيه الذي سبق به الجميع، وصدقه مع ذاته وشعبه وأمته.. تكريم مقيم أجنبي أنجز مهمة بطولية كشف عن تقدير ولي العهد للفعل الإنساني أياً كان جنسيته ولونه وعرقه مشهد التكريم نعود إلى المسار الأول مشهد تكريم "عائلة فرمان" في حفل الاستقبال السنوي للحج في منى.. الراعي هو الأمير نايف ممثلاً عن مملكة الإنسانية.. والشاهد مناسبة التكريم.. والشهود ممثلين عن أكثر من 183 دولة.. والحدث أمام عدسات العالم يروي ملحمة وفاء وتقدير تعكس منهج المملكة الإنساني والفريد.. كان الأمير نايف وهو يسلم وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى لوالد البطل "فرمان" حاضراً بالشكر والثناء على ما قدمه من تضحية، ولكن الأهم هو الشعور أن ما بذله يستحق التكريم، وهو واجب علينا فعله؛ لنجازي الإحسان بمثله.. في هذه اللحظات كان العناق حاراً بين الأمير نايف ووالد "فرمان".. هو عناق فريد يمنح الذات فرصة للتأمل وربما البكاء.. حين يكون الوفاء حاضراً بين الجميع، والتقدير وساما للمخلصين الأبطال.. .. ويتحدث إلى والد الشهيد بمشاعر حب ووفاء وتكريم الأمير نايف الرجل القريب من كل تفاصيل مجتمعه، الواعي لمسؤولياته، المتفرد بجزالة فكره وحنكته وحزمه وحلمه كان عفوياً في مشهد التكريم.. كان أقرب بعواطفه وإنسانيته من شهود الحدث ذاته.. كان عناقه وحضنه "ملحمة صدق ووفاء".. هو يدرك أنه يعانق أبا فقد إبنه في ميدان الشرف والتضحية، وترك خلفه أطفالاً أيتاماً، ويدرك أيضاً أن رد الجميل ليس كافياً دون مواساة محلها القلب الصادق بالدعوات.. ويدرك كذلك أن منهج المملكة الإنساني لا يكفيه استقبال مودة وتعاطف وتقدير، وإنما يتبعه فعل ملموس يحصد فيه التكريم علاوة الإنجاز على الدوام. رسالة من رئيس أعظم دولة في العالم ليس بحاجة أن يقول ما لا يعتقد أو يزايد لكسب موقف أو تحقيق مصلحة الأمير نايف في لحظة التكريم لم ينفرد بذاته في التعبير عن تقديره ومشاعره الإنسانية لوالد الشهيد "فرمان"، وإنما برهن عالمياً وتاريخياً عن قيم مواطنيه، وهو واحد منهم، وأصالة مجتمعه وهو قائد فيه.. الأمير نايف منح التاريخ في قداسة زمانه ومكانه فرصة لالتقاط صور تحكي عزيمة الذات وهي تكرم مقيم أجنبي أنجز مهمة إنسانية فريدة وبطولية، وكشف عن عمق التكريم الإنساني، وسمو هدفه، وجزيل غايته.. حين لا يرى سوى الفعل الجميل أياً كان مصدره، وجنسيته، ولونه، وعرقه.. الأمير نايف استجاب لشعور والد الشهيد حينما أراد أن يكون العناق على قدر همة الشهيد وهو يستجيب لصيحات المستغيثين، وبطولته وهو ينقلهم إلى يابسة النجاة، وتضحيته وهو يكرر المشهد 14 مرة دون خوف من نهاية المصير.. وروحه حين بلغت "حلقوم الوداع" بعظيم فعله وإنسانيته.. البطل فرمان أنقذ 14 إنساناً في سيول جدة ثم فارق الحياة عائلة "فرمان" في وادي سوات، وشعب الباكستان جميعاً كانوا ينظرون إلى لحظات التكريم عبر القنوات الفضائية على أنها تأكيد لمنهج تتفرد به المملكة عن غيرها، وهو الوفاء.. تلك القيمة التي لا يمكن أن تحصد دون أن يسبقها قيم صدق وإخلاص وتقدير.. لقد عبّرت العائلة عن مصابها، وتألمت كثيراً لفراق أبنها، ولكن تبقى المملكة حكومة وشعباً قلبا مفتوحا على مدى الحياة.. قلب يواسى المكلوم، ويعالج المريض، ويساعد الفقير المحتاج.. ويحفظ الجميل للمخلصين، ويكرّم الأبطال. وقد عبّر عن كل ذلك سمو الأمير نايف باحتضان من القلب والعقل، وإنسانية العلاقات فيما عبّر به من وفاء، وهو يستقبل والد الشهيد..احتضان رجولة بين وفاء ووفاء، وسمو أصالة إسلامية توحد بين كل فئات الناس. بنات فرمان وعدد من أفراد أسرته خلال تلقيهم دعماً ببناء مسجد في القرية يحمل اسمه رسالة التقدير وفي المسار الثاني حين تحضر رسالة الرئيس الأمريكي "باراك أوبا" كشاهد إثبات على المنهج الإنساني الرفيع للمملكة، وقدرتها على تحقيق النجاح في موسم الحج، وهي مهمة يدرك تماماً أنها ليست سهلة في زمانها ومكانها المحدودين.. تأتي هذه الرسالة من رئيس أعظم دولة في العالم، ومن رجل ليس بحاجة أن يقول ما لا يعتقد، أو يزايد لكسب موقف، أو تحقيق مصلحة خاصة.. ورسالة من حيث توقيتها ومضمونها لو لم تذيّل باسم "باراك أوباما" لشعرت أنها من رجل مسلم.. ولكن الرجل أراد أن يكون حاضراً في شهادة التعبير الصادق عن ما يعتقده تجاه المملكة، وهي تنجح في استقبال ثلاثة ملايين حاج، وتؤسس لمنظومة قيم إنسانية في مساعدة الفقير المحتاج في أفريقيا حين تصل إليه بلحوم الهدي والأضاحي مثلاً. ويؤكد "أوباما" في رسالته إلى الملك عبدالله على لغة الخطاب الراقية التي انتهجتها المملكة في الحوار بين أتباع الديانات والحضارات والثقافات؛ بما يضمن وصولاً أفضل إلى عالم متفاهم حول القضايا المشتركة في معتقدة، حيث بذلت المملكة في هذا الشأن جهوداً كبيرة ومضيئة في الحوار، وتُرجمت بمؤتمر مدريد العالمي، وكان الملك عبدالله حاضراً بفكره وفعله معاً ليقدم للعالم صورة الإسلام العقلاني المبادر المحب للسلام والعدل والمساواة والحرية..الإسلام المنفتح على العلم والتطور والحداثة وكسر الجمود والتقليد.. الإسلام الداعي إلى التسامح والتواصل وكسب الخبرات.. هذه هي الرسالة التي كان يحملها الملك عبدالله منذ سنوات وهي تحصد نتائجها عن قناعة وليس تزييفا، وهنا يعلن الرئيس الأمريكي موقفه قائلاً:"عندما يتمكن هذا العدد من البشر على اختلاف أعراقهم وخلفياتهم الاقتصادية من التغلب على ما يفرقهم ويصبون جل اهتمامهم على شيء أكبر فإن في هذا درسا للإنسانية جمعاء، إن الاختلاف بين الناس مصدر قوة وهو من نعم الله التي يجب الاحتفاء بها". هكذا تترجم أفعال المملكة إلى واقع يلمسه العالم بموضوعية وإيجابية.. أفعال كسبت احترام المواجهة، وتقدير الإنجاز، ومسؤولية القرار، والاحتفاء بالآخر وعياً ومشاركة.. هكذا تكون القيم الإنسانية الصادقة والمعبرة عن الفعل الذي يبقى خالداً في عقول وقلوب الناس.. الذي يبقى رمزاً ونموذجاً وقدوة لرسالة الإسلام..هكذا يكون الصدى العالمي حاضراً ومؤثراً في مضمون خطابه، ومنفرداً في لغته حين يتحدث عن المملكة.. ويحتفي بإنجازها، ويفاخر بمنجزها.. وهي الرسالة التي كان الرئيس "أوباما" ينطق بها بجميع لغات العالم. فرمان علي خان..حين بلغت روحه «حلقوم الوداع» - ينحدر من قرية «خوازه خيلة» بمدينة سوات في إقليم سرحد الباكستاني. - والده الشيخ «عمر رحمن»، رجل طاعن في السن، وصاحب دكان في القرية. - له (4) إخوة، و(5) أخوات. - خريج جامعي. - لديه شهادة في الكاراتيه. - شهادات عدة في العمل التطوعي. - اقترن بزوجته بروين فرمان عام 2000م. - بناته الثلاث: زبيدة (9 سنوات)، ومديحة (8 سنوات)، وجويرية (6 سنوات). - ابنته «جريرة» ولدت دون أن تراه إلاّ عند وصول جثمانه، وهناك ألقت النظرة الأولى والأخيرة على والدها في مشهد مؤثر. - كان طيب القلب تغلب عليه السماحة ودماثة الخلق مع جميع سكان الحي الذي يعيش فيه. - يعمل بائعاً في «بقالة» بجدة. - أوصى صديقه «شاه خان» في آخر اتصال بينهما أن يذهب إلى دار ابن عمه للاحتماء من السيل، والاحتفاظ بالدواء الذي اشتراه لوالدته في باكستان، وإيصاله لها. - ترجّاه صديقه أن يخرج من مياه السيل ولكنه أصر على مواصلة إنقاذ المحتجزين. - أنقذ 14 إنساناً كانوا عالقين وسط مياه الأمطار، ومعلّقين على أغصان الأشجار في (الكيلو 13) جنوب شرق جدة. - مات غريقًا عن 32 عاماً، حيث فارق الحياة بعد أن ربط جسده المفتول بحبال، ووثقها بأنابيب الصرف التي كانت مهملة على قارعة الطريق، غير أن الموج الهادر غدر به في آخر جولة إنقاذ، وجرفته مياهه الثائرة إلى الموت. - منحه خادم الحرمين الشريفين وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى. - تسمية أحد شوارع محافظة جدة باسمه.