لتسهيل الوصول إلى القرار المناسب وما يتضمنه من حكم على الأشياء، فإننا نلجأ إلى فهم الموضوع عن طريق افتراض نظرية معينة. وقد أشارت الزاوية السابقة إلى وجود أربعة أشكال من التفسير المعرفي التي عرفها الإنسان منذ القدم. وإذا كان التفسير الأسطوري هو الذي رافق الإنسان الأول لفهم ما حوله من عناصر الطبيعة، فإن هذا التفسير لايزال يعمل في عقولنا بعد أن خفّت منه الجوانب العجائبية التي تتصف بالغرابة وحلت محلها عجائب يقبلها المرء بعد إعادة صياغتها. وقد كان الإنسان الأول يفسّر أي شيء يراه وفقًا لتصوراته الذهنية، فيجد التفسير سهلا للظواهر الطبيعية كالكسوف والخسوف وحركة القمر والشمس، ويفسر أي شيء مختلف من منطلقات ذهنية تكشف عن الوعي السائد آنذاك. ومن ذلك ما تشير إليه بعض التفسيرات القديمة من تعصّب عرقي أو مكاني أو جنسي، فقد كان الإنسان الأول يُفسّر مثلا اختلاف بشرة الناس ما بين سوداء وبيضاء، ويخمّن أن سبب التغير يعود إلى عنصر مهم، فيهديه تفكيره الأسطوري الذي يمايز بين الألوان من خلال البيئة المحيطة به إلى أن السبب إنما يعود إلى وجود عقوبة وقعت على فرد قديم قام بالغسيل باللبن، فعاقبه الله على فعلته بتغيير لون بشرته. ثم تزخر الحكايات الشعبية بقصص تمثل المفارقة بين لون اللبن الأبيض ولون البشرة الأسود، لكي تؤكد على مقولات تحقق حصول المعجزات. ويجد هذا التفسير قبولا لدى الجماهير لأنه معزز بمنطلقات أيدويولوجية داعمة. ولا يخطر على بال أصحاب التفسير الأسطوري، أن هناك تفسيرًا علميًا دقيقًا يكشف عن سرّ اختلاف لون البشرة بالنظر في كروموسومات الوالدين، ووجود احتمالية إنجاب طفل بلون بشرة سوداء من أبوين حنطيين، بمثل احتمال إنجاب طفل بلون بشرة بيضاء. ومع أن هذين الاحتمالين ضعيفان إلا أنهما قد يقعان بكميات قليلة تؤدي إلى وجود جينات ذات لون أسود. وليس لاختلاف اللون علاقة بطبيعة الشخص أو سلوكه أو طعامه. وتحفل الأدبيات التراثية بمقولات متعددة عن صفات المرأة وصفات الرجل ومعلومات عن النباتات والأشجار والنجوم وغيرها من عناصر الطبيعة تعطي كل شيء تفسيرات أسطورية، ولعل كتاب "بدائع الزهور في وقائع الدهور" يحمل في طياته نماذج عديدة لمثل هذا النوع من التفسير. وقد سمعت من خطيب أحد الجوامع، قبل أكثر من عام، حينما كان المجتمع مهتمًا بما يقال في وسائل الإعلام عن أنفلونزا الخنازير، قوله بأن هذه الأنفلونزا جاءت من الغرب لتدمير الأمة، وأن سببها يعود إلى ممارسة الزنا بالمحارم والعياذ بالله. وبالمثل، تشيع أفكار لها طابع أسطوري يعتمد على وجود مؤامرة تحاك ضده في كل شيء، مثل القول بقيام أمريكا بغسيل أدمغة الطلاب الأجانب لكي يكونوا عبيدًا لها في المستقبل. وبعض الناس صار مشبعًا بهذه التفسيرات الأسطورية، فإذا سمع صوتًا غريبًا خارج غرفته أو خارج منزله، فإن عقله يذهب مباشرة إلى وجود من يتجسس عليه. ولو قابله أحد وسأله سؤالا عابرًا فإن تفكيره ينصبّ على وجود محاولات من جهات خفية تريد استمالته أو الكشف عن أفكاره. وأصحاب هذا الاتجاه، لا يُخضعون أفكارهم للمساءلة، فلا يكلف عقله عناء الاستفسار عن المصلحة وراء ما يتوقعه من مؤامرات، ومدى جدارة هذه المصلحة بأن تكون لها الأولوية والاهتمام عند الجهات الأخرى، لأنه يدور في دائرة واحدة ذات بعد أسطوري مستمد من الخيال. والواقع أن ما يعزز هذا الاتجاه لدى أصحابه هو ميلهم إلى استلهام الخيال في أفكارهم. ومع أن الخيال يعدّ نعمة كبرى على الإنسان في أنه يقدم المنحة للأفكار الخلاقة، إلا أنه كذلك قد يجلب الأفكار السلبية التي تتحول من كونها مجرد خيال إلى حقيقة تواجه صاحبها فيعتقد بواقعيتها. وبسبب التناغم بين التفكير الأسطوري ومساحة الخيال البشري، فإن الخيال يمثل مهادًا للأفكار العجائبية التي تنسجم مع الخيال ولكنها لا تستقيم مع الواقع. ومن هنا، يأتي ما يسمى ب "خطر الخيال" على الإنسان إذا لم يملك المرء القدرة العقلية على التمييز بين معطيات الخيال ومعطيات الواقع ويستطيع بقدراته العقلية أن يستثمر الخيال لخلق الإبداع. وبقدر ما استلهم الإنسان الأول الحكايات والخرافات من خياله مع يقينه بعدم واقعيتها، فإن الإنسان في مختلف العصور معرض للوقوع ضحية لخياله حينما يُصبح هذا الخيال منبعًا منغلقًا على ذاته يمتح منه معارف مغلوطة عن الحياة وعن الكون وعن العلاقات الإنسانية بين البشر.