من حقائق التاريخ البشري المعروفة أنه ما من رسول من رسل الله عليهم الصلاة والسلام استُجيب له إلا بعد جهاد طويل وممانعة شديدة وكذلك كلّ الرواد وكل المفكرين وكل المصلحين وكل المبدعين جوبهوا بالأحكام الجاهزة والتصورات السائدة والآراء المسبقة فحالت بينهم وبين التأثير إلا بعسر مرهق وبعد بطء شديد وفي الكثير من الحالات لا تحصل الاستجابة الإيجابية أبداً. إن المواقف المسبقة هي العائق الأشد استعصاء على الاختراق والتغيير إنها الحصن التلقائي المنيع الذي يعوق التواصل ويعرقل الفهم ويحول دون الاستجابة الإيجابية فهذه القناعات المتكونة تلقائياً تقف أسواراً منيعة تفصل فرداً عن فرد ومجتمعاً عن مجتمع وثقافة عن ثقافة فبسبب هذه الحواجز التلقائية المنيعة تحتجب الحقائق ويتعطل التفاهم ، وتتفاقم المظالم وتتوطد الجهالات ويدوم التنافر وتسود القطيعة ويستمر التخلف... إن التقييمات الجاهزة والآراء المسبقة والبداهات السائدة تتحكّم بتفكير الإنسان وسلوكه وتفصل بينه وبين غيره من دون أن يحس لأن المبرمجين بها الواقعين في أسرها لا يعرفون حقيقتها ولا يخطر على بالهم أن يضعوها موضع المساءلة أو الشك، بل يجهلونها جهلاً تاماً وينكرونها إنكاراً قاطعاً إنها تحتمي بهذا الجهل والتجاهل والإنكار من أي توقف عندها أو تحديق بها أو فحص لها أو تحقق من أساسها ومصادر تكوينها وبذلك تبقى البداهات الخاطئة في ظلام اللاوعي تُسيِّر الإنسان بصورة تلقائية فيرفض ما لم يعتد عليه دون أن يحاول فحصه ، ويستخفّ بما لم يألفه دون تمعن ويتجاهل من يستحق الاهتمام من غير إحساس بالخطأ أو الإجحاف ؛ فالفرد بسبب التصورات المسبقة عن نفسه وعن الأشخاص والأعمال والأفكار والآراء والمواقف يكون جاهز البداهات فيوصد عقله عن الكثير من الحقائق المهمة أو الأساسية وبذلك يخسر مثل كل الآخرين فرصاً كثيرة للتعلُّم والفهم إنه كغيره مقتنع ببداهاته وأحكامه وآرائه ولا يلتفت لغيرها ولا يحاول أن يتحقق منها ولا أن يتفهَّم وجهات النظر الأخرى فيبقى في عماه وهو يعتقد أنه يفعل كل ذلك ببصيرة مُشرقة وتحقُّق تام وبسبب ذلك يصعب تبادل الأفكار والرؤى والخبرات وذلك بفعل الثقة التلقائية بالذات والاستهانة التلقائية بالغير وينطبق ذلك على كل الناس تقريباً مما يكشف عن فظاعة المعضلة وفداحة الخسائر!!! إن كل فرد مسيَّر بأحكام وبداهات وتصورات وآراء ومواقف تتحكم به وهو غافل عنها غفلة مطبقة إن حواجز الأحكام الجاهزة والآراء المسبقة والبداهات المستقرة لا يدركها في الغالب إلا الذين لهم ممارسة طويلة للتأمل ودربة عميقة بالشأن المعرفي ويهتمون بالفهم اهتماماً متحرراً من السوابق ويكونون مدفوعين برغبة قوية للفهم ويحركهم دافع قوي لإفهام الآخرين لأنهم يصطدمون بهذه الحواجز كلما حاولوا إيضاح فكرة أو بيان وجهة نظر أو توطين ممارسة أو شرح موقف أو نقد اتجاه أو تحليل واقع أو اقتراح بديل... ومع أن المتعاملين والباحثين من مختلف المجالات يشعرون بهذه المعضلة كلما حاولوا التفاهم مع غيرهم أو إقناع الناس بوجهة نظرهم حول مسائل خلافية إلا أن المفكرين من حُداة التنوير ودعاة التغيير هم الأكثر ارتطاماً بهذه الحواجز لأن أفكارهم تكون مغايرة للمألوف ولا تتفق مع السياق العام لذلك نجد أن شكواهم الأبرز هي هذا الارتطام القاصم المحبط المتكرر فهم لا يجدون إلا آذاناً صمّاء أمام ما يقولون ويكتبون لأن الأحكام الجاهزة والآراء المسبقة والبداهات المسيطرة قد احتلت العقول وحدَّدت المواقف وشكَّلت الرؤى وكونت مسارات العواطف ونمَّطت التصورات فلا يلتفت أحد لما يدْعون إليه إنهم يصطدمون بكل ذلك أينما تحركوا وهم يدركون أن خلخلة هذه الأحكام الجاهزة والتصورات المهيمنة والآراء المسبقة هي الشرط الأول لأي تفاعل يسمح بوصول الأفكار وتبادل الفهم إنهم يعلمون أن المجتمعات لن تخرج من كهوف التخلف ولن تتقدم إلى واقع أزهى وأرقى إلا إذا هي استنارت واندفعت اندفاعاً تلقائياً للتغيير ولكنها لن تصل إلى الاستنارة إلا إذا تحقق تخليصها من حواجز الأحكام الجاهزة وحصل تحريرها من البداهات السائدة وجرى أطلاق عقول أفرادها من أَسْرِ الآراء الخاطئة المسبقة.. إن الوعي الناقد الفاحص يمثل طفرة استثنائية فلا يأتي تلقائياً ولا يُفرض قسراً وتجرُّعاً وإنما تتهيأ النفوس للفحص والتحقق إذا تخلخل الوثوق المطلق بالمسلّمات الخاطئة وبذلك تنفتح أبوابُ العقل وتتهيأ العواطف لاستقبال الأفكار الجديدة ومن هنا ينادي المفكرون في كل العالم بضرورة التركيز على إزالة حصون التصورات الراسخة وتقويض التقييمات الجاهزة وكشف عورات الآراء المسبقة فيقول صاحب (دفاتر السجن) المفكر الإيطالي الشهير غرامشي: «لابدَّ من تحطيم الحكم المسبق الشائع» أما العالم البريطاني كارل بولاني فيؤكد في كتابه (التحول الكبير) بأنه: «لا شيء يشوِّش نظرتنا مثل الأحكام المسبقة» ويكاد يتفق المفكرون من كل المجتمعات وفي جميع العصور على أن التصورات المستقرة والتقييمات الجاهزة والآراء المسبقة سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى المجتمعات هي العوائق الأساسية الكبرى للتقدم الإنساني في كل مجالات الفكر والعلم والتفاهم والعلاقات والأمن والسلام وتبادل الأفكار والرؤى.. إن الإنسان بطبيعته يكون مشحوناً تلقائياً بتقييمات وبداهات وتصورات وآراء وعواطف ومواقف لم تخضع لأي فحص بصير ، ولا لأي مراجعة ناقدة ولا لأي تحليل دقيق فالفرد من الناس لا يتعامل مع الأفكار والأشخاص وهو خالي الذهن ولا يحكم على الأعمال والأفراد والأفكار بعقل محايد، ولا يواجه الحياة وهو فارغ العقل وإنما يواجهها بقناعات راسخة وببداهات حدًّدَتْها له بيئته العامة وشكَّلتها معارفه وظروفه الخاصة إنه يولد بقابليات فارغة فتمتلئ تلقائياً بما تمتصه من الوسط الثقافي السائد فيتشكل ذهنه بقوالب البيئة التي ربَّتْه ويتشبَّع بما فيها من اتجاهات وأحكام وآراء ومواقف وينضاف إليها عوائق شخصية مما يَعْرِضُ للفرد في حياته فتتلوَّن به نظرته لكل شيء ولا يخطر على باله أن التصورات التي امتلأ بها عقله قد تكون خاطئة بل يعتبرها حقائق غير قابلة للنقاش وبسبب ذلك لا ينحصر الإشكال في الكيانات الثقافية المتباينة وإنما تقف الآراء المسبقة والبداهات التلقائية عائقاً للتفاهم بين الأفراد حتى داخل الثقافة نفسها فالفرد لا يَقْبَل أو يرفُض بتفكير آني ومساءلة موضوعية واهتمام حقيقي بوجهات النظر الأخرى وإنما يأتي القبول أو الرفض لما يرى أو يقرأ أو يسمع تلقائياً انسياباً من هذه البرمجة المستقرة التي تنساب من خافيته انسياباً تلقائياً شبيهاً بانسياب التنفس أو فوران الدخان من النار... فإذا كانت الثقافات عوالم متمايزة وتفصلها أسوارٌ صلدة فإن كل فرد أيضاً حتى داخل الثقافة الواحدة هو عالمٌ له كهفه الخاص ومعارفه وبداهاته وظروفه وتصوراته وآراؤه ومُسَبَّقاته لذلك نجد أن تبادل الأفكار بين الأفراد داخل أي ثقافة يكون أحياناً شديد الصعوبة فلكل فرد أحكامٌ جاهزة وآراء مستقرة مما يضع الكثير من العراقيل أمام محاولة التفاهم بين الأفراد إن الأحكام الجاهزة والآراء المستقرة هي ألدُّ أعداء الإنسان وأقوى موانع بلوغ الحقيقة سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى المجتمعات أم على المستوى الإنساني بأجمعه لأنها تفصل الناس بعضهم عن بعض، كما أنها تؤدي إلى الثقة بالسائد مهما كان خاطئاً والاصرار على الأوهام من دون مراجعة ورفض الرأي المغاير من غير إمعان وغبن الآخرين بلا إحساسٍ بهذا الغبن وإلحاق الأذى بالمخالفين باطمئنان واقتناع إن الأحكام الجاهزة والآراء المسبقة من أقوى أسباب التجاهل إنها تؤدي إلى الإعراض عن الحق والاستخفاف بمن يستحق الاحترام والإهمال لما يستحق الاهتمام إنها من أغزر منابع الجهل والإجحاف والاختزال والجور إن التقييمات الجاهزة والآراء المسبقة توصد أبواب العقل وتسدّ منافذ التعاطف وتصدُّ روافد المعرفة وتستبقي الإنسان الفرد والمجتمع في حالة جمود في الأوضاع، وتخلُّف في الأفكار وانقطاع عن مسيرة التقدم الظافرة.. بائسٌ هذا الإنسان لأنه يتبرمج بما يسلبه فرديته وبما يملأ قابلياته بالأوهام ويصرف طاقاته لمجالات لا تستحق الاهتمام ولكن هذا هو قَدَرُهُ لأنه لا محيص له عن التبرمج بالأحكام الجاهزة والتصورات المستقرة والآراء المسبقة فهو يولد بقابليات فارغة ولا يملك يوم ولادته أية قدرات عقلية جاهزة إنه لا يدخل عالم العقل إلا إذا نشأ في أسرة ومجتمع وتشرَّب ثقافة قائمة ولغة سائدة فالتنشئة في أي ثقافة تضع تلقائياً عقول الأطفال في قوالب تصوغها تلقائياً بشكل خاص محدد فتمتلئ بأنماط محددة من التصورات وطريقة التفكير والممنوعات والتفضيلات، وأسباب القبول والرفض وأنواع الاهتمامات ورؤيته عن الشعوب والبلدان والأمم وتصنيفهم إلى أعداء وأصدقاء وخصوصاً إلى أعداء!!! إن الطفل يكبر وقد تطبَّع بأنماط من الكره والحقد والنفور والاحتقار للآخر المختلف وكل ذلك ليس من ثمار تجاربه الخاصة وبحثه واستقصائه وإنما هو يكون قد تبرمج به من البيئة فالشعوب الأخرى مصنَّفة عنده كأعداء ومنبوذين ومحاربين ومتآمرين ومتربصين ويجري في الغالب التركيز على حَشْد عاطفة الكره وتأجيج العداوة واستنفار المخاوف أما الحب وعوامل السِّلْم وتبادل الاحترام فكلها مستبعدة كلياً وكأن المطلوب دائماً هو تأكيد الجوانب السيئة فقط وتهيئة الإنسان دوماً ليكون جاهزاً للعنف والرد والمبارزة وبذلك لا يبقى في نفسه مكان للتآلف والتعاون ولا لتوقُّع حُسن النية ولا للثقة بالآخرين ويتشكل كل سلوكه وتفكيره بهذا الاحتشاد السيئ حتى مع أقرب الناس إليه لأن نفس الفرد لا تتجزأ وإنما هي تُفرز تلقائياً مما امتلأت به... إن الطفل يتبرمج بكل هذه المخاوف التي تتلوَّن بها علاقاته وتُفسد عليه حياته وتَطبع أخلاقه وتصوغ تصوراته إن الطفل بعد أن يكبر ويصبح راشداً في العُرف السائد لا يبني أحكامه على البحث والتحقُّق وإنما يبقى متبرمجاً بكل ما يوجِّه نشاطه وتفكيره وعلاقاته وسلوكه واهتماماته وبما تصطبغ به حياته إن الفرد بالتنشئة وبالامتصاص التلقائي للثقافة السائدة وبظروفه الخاصة يصبح بعقل محدّد ويصير قسراً وليس اختياراً منتمياً انتماءً صارماً لنمط من أنماط التفكير ولمنظومة من منظومات القيم، ولثقافة مختلفة عن غيرها من الثقافات فالفرد لا يختار هويته وإنما الهوية القائمة تصوغه تلقائياً ليصير مغتبطاً بها ومدافعاً عنها فيشبُّ معجوناً بها ومقولَباً بقوالبها وهو حين يكبر ينسى نسياناً مطلقاً هذه الحقيقة فيتوهم أنه قد اختار هويته بنفسه وأنه قد تعقل تصوراته بذاته وأنه قد استخلص آراءه بجهده وأنه قد كوّن بمحض إرادته تقييماته ومواقفه واهتماماته فلا يدرك إلا في حالات نادرة حقيقة ذاته وأنه مصوغٌ كلياً بغير اختياره قبل بزوغ وعيه وأن اندفاعاته هي نتاجٌ تلقائي لما تبرمج به في طفولته وما تعزّز في مراحل حياته فهو ضحية التنشئة من دون أن يفطن إنه يفخر بما لا دَوْرَ له في تكوينه ويستميت في الدفاع عما برمجه به غيره وتبلغ قوة البرمجة أن الإنسان يبقى طول عمره مغتبطاً بتصوراته التلقائية حتى لو كانت ضد مصلحته وتتصادم مع أبسط حقائق العلم ووقائع الوجود وحتى التعليم مهما بلغ نوعه ومستواه ومكانه لا يستطيع أن يغيِّر من ذلك شيئاً فالفكر الخلاق هو مصدر التغيرات أما المعلومات فلا تستطيع وحدها إحداث أي تغيير في البنية الذهنية المتشكلة ، لا يختلف في ذلك من يقدسون البقر عن الذين يعبدون الشيطان ولا من يُؤَلّهون المسيح عن الذين يعبدون الأوثان!!! أما إذا صادف أن الأفراد في أي مجتمع نشأوا على تصورات سليمة وعلى حقائق ممحَّصة فلا جهد لهم في ذلك وإنما هو حظٌ سعيدٌ محضٌ فالهندوسي لو وُلد في أسرة يهودية لنشأ يهودياً فيتبرمج بالثقافة اليهودية يتكلم لغتهم ويفكر بطريقة تفكيرهم ويعادي من يعتبرونه عدوهم ويصادق صديقهم ويتحرك تلقائياً بمنظومة قيمهم وينشغل بالاهتمامات التي تطبَّع بها من بيئتهم، وبالمقابل فإن الطفل اليهودي لو أخذ يوم ولادته ووضع في أسرة بوذية يابانية فسوف ينشأ بوذياً ويتشرَّب تلقائياً كل ما هو سائد في البيئة اليابانية من لغة وطريقة تفكير وانتماء وحب وكُره وهكذا كل الأفراد في جميع الثقافات!!!... إن الأفراد يتشرَّبون البداهات السائدة في مجتمعهم سواء كانت صالحة أم ضارة وسواء كانت جيدة أم رديئة وهي تكون حتماً مغايرة لبداهات المجتمعات الأخرى ولكن الأفراد لا يتساءلون كيف تكوَّنت هذه البداهات ، ولماذا هي تختلف عن بداهات المغايرين ولا يخطر على بالهم أن يسألوا أنفسهم أين تقف الحقيقة من هذه التباينات في البداهات التلقائية رغم أن حياتهم كلها تتأسًّس عليها فكأن الإنسان يتقبَّل راضياً بل مغتبطاً أن يصادَر حقُّهُ في التفكير المستقل وكما يقول الدكتور جمال مفرج في كتابه (أزمة القيم): «حقائق التجربة الإنسانية تحجبها عنا البداهة والإدراك العادي» لذلك فإن الثورة الفكرية التي قادها الفيلسوف الفرنسي ديكارت وأرسى بها مسيرة الحضارة المعاصرة قد تأسَّست على إعلان خطورة الأحكام المسبقة فقد كان الشرط الأول الذي أعلنه للخروج من غبطة الجهل والبدء بمسيرة البحث عن الحقائق هو: «إذا أردنا أن نَفْرَغَ لدراسة جدية للبحث عن الحقائق وجب علينا أن نتخلَّص أولاً من أحكامنا السابقة وأن نحرص على طرح جميع الآراء التي سلًّمنا بها من قبل وذلك ريثما تتكشَّف لنا صحتها بعد إعادة النظر فيها وينبغي أيضاً أن نراجع ما بأذهاننا من تصورات وأن لا نُصدِّق منها إلا التصورات التي ندركها بوضوح وتميز فإذا قارنا بين ما تعلمناه حين فحصنا عن الأشياء بترتيب وبين أفكارنا عنها قبل أن نقوم بذلك الفحص اكتسبنا عادة تحصيل تصورات واضحة ومتميزة عن كل ما نحن قادرون على معرفته ، ويبدو لي أن هذه القواعد القليلة تشتمل على أعم مبادئ المعرفة الإنسانية وأهمها» وكرر هذا المعنى بصيغ متنوعة في مختلف كتبه. إن ديكارت بهذه المنهجية الصارمة قد أيقظ أوروبا لخطورة الأحكام الجاهزة والآراء المسبقة ووضع هذه القارة السعيدة على طريق التحقق وفتح لها أبواب العلم ونصب لها سلم الصعود نحو الازدهار وبهذا اعتبره الأوروبيون الأب الفكري لما يعيشونه من ازدهار شامل وهو يلفت النظر إلى أن الاستسلام للأحكام الجاهزة والآراء المسبقة ليس محصوراً بعامة الناس وإنما حتى أعظم المفكرين يقع في حبائلها تلقائياً ما لم يستنفر ذاته لمقاومتها ويعتمد الفحص والنقد والمراجعة والتحليل ومعاودة التحقيق وبهذه الرؤية الناضجة صار العقل الناقد هو حافز النمو ومقوِّض المسلَّمات التلقائية... وما من مفكر عانى معالجة المعنى بغير المألوف أو حاول إبلاغ أفكار غير معتادة أو تصحيح تصورات سائدة أو تعديل مواقف متوارثة إلا جوبه بحواجز الأحكام الجاهزة والآراء المسبقة ، يقول رولان بارت في كتابه (الكتابة في الدرجة الصِّفر): «هنالك عائقٌ كبير يحول دوننا ودراسة المعاني ذاك الذي يُصطلح على تسميته بعائق البداهة» وما يعنيه بارت بالبداهة هنا هو الأحكام الجاهزة والتصورات السائدة والآراء المسبقة وهو يرى أن الإدراك الصحيح مشروطٌ بالإفلات من هذه البداهات التي يتبرمج بها الناس تبرمجاً تلقائياً ثم لا تتعرض هذه البرمجة لأي فحص أو تحليل فهذا الإفلات يمثل المغامرة الفكرية الاستثنائية التي ترتفع بنا إلى: «إدراك ما كان محتجباً ومستتراً وخفيَّاً». إن الأحكام الجاهزة والآراء المسبقة والتصورات المستقرة هي أكبر عائق للتفاهم بين الأفراد والجماعات والأمم وهي المانع الأقوى الذي يمنع انتشار الروح العلمية ويُجهض الجهود الهائلة في التعليم ويستبقيها في مستوى الاجترار ويضمن استمرار أنماط التفكير الخاطئة والأحكام المتسرعة ، ويديم الآراء المتكلّسة ولو استطاعت الإنسانية أن تتغلّب على هذا العائق المستحكم الفظيع لكان هذا التغلب أعظم من تفجير الذرة وغزو الفضاء واكتشاف خريطة الجينوم البشري ومن كل ما توصَّل إليه الإنسان من علوم وما اخترعه من تقنيات وما حققه من إنجازات. إن زلزلة الأحكام المسبقة والبداهات السائدة والآراء الجاهزة والتصورات الخاطئة هو الانتصار الأعظم الذي على الإنسانية أن تسعى إليه وأن توفر له من الاهتمام والدعم والاحتشاد ما يتناسب مع أولويته المطلقة وأهميته القصوى...