كنت في زيارة للمنطقة الشرقية الغالية من مملكتنا الحبيبة ، وكان من المرتب أن ألتقي سمو نائب أميرها ، الأمير جلوي بن عبدالعزيز بن مساعد. وفقه الله ، فلما تيسر اللقاء بسموه في مكتبه ، كان هناك بعض المواطنين الذين يراجعون في أمرهم ومعاملاتهم ، واستوقفني دماثة خلقه ، وجم تواضعه ، وليس مرادي من هذا أن أثني على سموه ، فإن الثناء على مثله في زمننا هذا يعد تزلفاً ، ويظن بالمثني سوءا ، ويراه الناس طالباً لمال أو جاه أو شهرة . فإنا تعودنا في مجتمعنا هذا على أن ننتقد ، ولا نثني على المحسن ، حتى وإن كان إتقانه لعمله ، ونزاهته واضحة للعيان ، بل تعودنا أن نقول لأزواجنا ، ولأولادنا إذا ما أثنوا علينا ، حسناً فماذا تريدون ؟ وهم كذلك ، بل لو قال الزوج لزوجه ما أجملك ، أو إني أحبك لتساءلت إن كان قد عزم على الزواج بأخرى ! فكأننا لا نثني على أحد إلا ونريد من وراء هذا الثناء تغطية خطأ ، أو رغبة في دنيا . على أن الثناء على الملوك والأمراء سنة وعادة قديمة ، جرى عليها الناس علماؤهم قبل عوامهم ، فليست مخاطبة الملوك وولاة الأمر كمخاطبة غيرهم من الناس ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : أنزلوا الناس منازلهم . وقد قال الأمير يحيى بن خالد بن برمك : مساءلة الملوك عن حالها من سجية النوكى يعني : الحمقى فإذا أردت أن تقول : كيف أصبح الأمير؟ فقل : صبح الله الأمير بالنعمة والكرامة ؛ وإذا كان عليلاً فأردت أن تسأله عن حاله فقل : أنزل الله على الأمير الشفاء والرحمة . وكيف لا يمدح ولاة الأمر ولاسيما إن كانوا من الصالحين وهم ظل الله في الأرض ، وفسطاطه الذي يقوّم الله به كل معوج. ومع هذا فإنه لن يمكنني أن أتكلم عن موضوعي دون الثناء على سموه ، لأنه سبب المقال ، وهو مرتبط به . ففي أثناء عرض أحد المواطنين لأمره قال لسموه : إن هذا صك شرعي ، لم ينفذ ، مع أمركم بتنفيذه . فكان الجواب سريعاً : دعك من أمري ، إن هناك أمراً أهم وأعلى وأعظم من أمري ، وهو شرع الله ، كيف تملك صكاً شرعياً ثم لا ينفذ ؟ وسأقف هنا في تصوير المشهد، دون بقيته ، لأني حاورت سموه بعد أن انفض المجلس من المراجعين في هذه الكلمة ، واستمعت إلى كلمات أعظم منها، وأجمل ، من تسخيره نفسه ، وكل من يعمل معه ، لخدمة هذا الدين ، وتنفيذ أوامره ، قدر المستطاع ، دون تحريف أو تعطيل. وكان نقاش أخوي، ظهرت فيه دماثة الخلق، وسعة الاطلاع، والثقافة الجمة، والصبغة الدينية في شخصيته، حفظه الله. وإني إذ أسطر هذا فإن الغرض كما أسلفت ليس الثناء على شخصه ، وإن كان يستحقه بجدارة ، ولكني أريد الثناء على أكبر منه ، وأعظم منه ، وهو على هذا الدين العظيم ، الذي صبغ أفراد هذه الأسرة المباركة ، فتحملوا أمانته بجد وعزم ، وتفان ، يذكروننا به في كل وقت ، حتى إن مليكنا المفدى – رفع الله عنه البلاء ، وعجل له بالشفاء – يصدح بخدمته لشعبه النبيل أمام العالم كله ، ويردد كل مسؤول فيها أنه لولا فضل الله ونعمته ، ومنته ، لما كنا على ما نحن عليه ، وما صرنا إلى ما نحن فيه . إن شكر الناس ، والثناء عليهم دين ، وشريعة ، كما في الحديث : ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله . وقد أثنى حبيبنا صلى الله عليه وسلم على أبي بكر ومدحه . وإن من شكر الله تعالى أن نحدث بنعمه التي أسبغها علينا ، فإن التسخط من الحال ، وكثرة الشكوى دليل عدم الرضى عن المولى جل في علاه . وفي السير عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، حين جاء إبراهيم يطالع تركته ، فلم يجد إسماعيل ، ووجد امرأته ، فسألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بشر ونحن في ضيق وشدة ، فشكت إليه . قال : فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام وقولي له : يغير عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل أخبرته الخبر ، فقال : ذاك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك . فلما عاد إبراهيم بعد أمة ، تكرر الحدث مع امرأة ابنه الجديدة ، لكنهاأثنت على الله ، وقالت نحن بخير وسعة . فأوصاها بمثل ما أوصى الأولى لكنه قال : مريه أن يثبت عتبة بابه . وكانت قد دعته ليطعم ويشرب ، فلما سألها عن طعامهم وشرابهم قالت : اللحم والماء ، فقال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم . فهذه بركة دعوة إبراهيم ، كما جاء في الحديث . والمقصد أن الثناء على الله بحسن الحال ، وشكره باللسان والجوارح يجلب البركة ، ويديم النعمة وينميها ، مصداقاً لقوله : لئن شكرتم لأزيدنكم . وأنا أعلم يقينا أن في بلادنا من النقص والتقصير ما يمكن أن يسطر في مقالات كثيرة ، ويناقش في ساعات طويلة ، ولكن مهما كان من تقصير أو قصور فإن لنا في حسن الثناء على المولى ما يجبر ذلك النقص ويغطي ذلك التقصير . ومن الإساءة في الشكر أن نغلق أعيننا عن كل جميل ، ولا نرى إلا الجانب المظلم مما حولنا ، ونغض الطرف عن الظلال الوارفة التي تحيط بنا من كل جانب على تفاوت فيما بيننا ، وقد قال النبي الكريم عليه الصلاة والتسليم : انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله. إن المطالبة بالحقوق ، والدعوة إلى الإصلاح حق لا يمكن إنكاره ولا رفضه ، شريطة أن يكون دعوة للإصلاح بحق ، ولإنجاز تقدم يضاف إلى نجاحاتنا الكثيرة ، ولا يكون ذريعة لهدم ما بنيناه في سنين طويلة . إن مجتمعا مهما بلغ في رقيه المادي فإنه لن يبلغ الكمال بحال ، وهذا العالم من حولنا شرقيه وغربيه ، يعاني ، ويشكو من الحياة وقسوتها ، وظروفها ، وصعوبة العيش فيها ، وقد شاهدنا وسمعنا في الأيام القليلة الماضية العالم المتحضر يخرج في أكثر من ألف مدينة في العالم يشكو من الأوضاع الاقتصادية والمادية. لا نبرر أبداً ما نحن فيه ، ولا تنسينا فرشنا الوثيرة ، معاناة ومقاساة الحياة التي يعيشها إخواننا الذين يعيشون معنا تحت سماء واحدة ، ومع كامل شكرنا وتقديرنا لما تقوم به قيادتنا الحكيمة إلا أننا نرجو من الله ثم منهم المزيد ، فإنه الجواد لا يقف به الكرم موضعاً ، وكما قال المتنبي : على قدر أهل العلم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام الكرائم بقي أن نشحذ الهمم للمعالجة ، وأن نتكاتف لمواصلة البناء بجد وعزم ، فالتصحيح لا يكون بالتخريب ولا بالغوغائية ، ولا بالتنابز تصنيفا وشتما ورميا من كل جهة على الأخرى بأنها سبب ذلك التقصير ، بل ينبغي لنا أن نكون على ثقة من أنفسنا بأنا قادرون على تجاوز المحن ، ومواجهة الفتن ، طالما بقيت فينا محبة هذه الشريعة ، وبقي فينا الشعور بأهميتها لنا ، وبقيمتها في حياتنا ، وحرصنا دوما أن نجعلها فوق رغباتنا ، وحاكمة على تصرفاتنا ، ومنطلقا لحكمنا وتحاكمنا . وما أجمل ما ذكره الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي في كتابه " سراج الملوك " حيث قال : وكان العلماء يقولون : إن استقامت لكم أمور السلطان فأكثروا واحمدوا الله تعالى واشكروه ، وإن جاءكم منه ما تكرهون وجهوه إلى ما تستوجبونه منه بذنوبكم وتستحقونه بآثامكم ، فأقيموا عذر السلطان بانتشار الأمور عليه ، وكثرة ما يكابده من ضبط جوانب المملكة واستئلاف الأعداء ورضاء الأولياء ، وقلة الناصح وكثرة المدلس والفاضح .اه . إن قول سمو الأمير جلوي : إن شرع الله فوق أمري ، شعار يجب أن يتحول إلى شعور لكل مسؤول سلمت له القيادة أمانة ، واسترعته رعية ، فبهذا قامت بلادنا ، وعليه اجتمعت كلمتنا ، وبها نواجه أعداءنا ، ونثبت أركان كياننا ، فتذهب أطماع الطامعين أدراج الرياح ، وما بكم من نعمة فمن الله ، فالحمد لله على نعمه ، ونسأله مزيدا من فضله ، وشكرا من الأعماق ، سمو الأمير .