كالعديد من المؤثرات الثقافية والعلمية، ومجمل ما أعطته للعالم الحضارةُ الغربية، قدمت لنا أسلوب الإضرابات والتظاهرات، ونظم النقابات المختلفة، وحالياً تشهد مدن أمريكية وأوروبية تظاهرات كبيرة بسبب الأزمة المالية، وقطعاً لاتستطيع الأحكام والقوانين منعَ أو رفض هذا التعبير الشعبي، وإلا ناقضت الدساتير والقوانين التي أعطت الحق للشعب لأنْ يعلن الاحتجاج على أي قضية تمس مصالحه. قلتُ في مناسبة سابقة إن العمال اليابانيين سبق أن أضربوا لسبب ما، كلّف الاقتصاد مبالغ كبيرة، وبشعور المسؤولية الوطنية كلفت نقاباتهم زيادة ساعات العمل بما يضمن التعويض عن الأسباب التي أدت إلى الإضراب، ونموذج الوعي المتقدم للشعب الياباني بمختلف قطاعاته يعطينا الدليل أن الشراكة في المسؤولية، لا تعني أن يرافق الاحتجاج العبث بالمصالح الفردية أو الوطنية، أو الاعتداء على الأشخاص سواء أكانوا أفراداً عاديين، أم من أصحاب المحلات التجارية، والعابرين الطرق أو رجال الأمن، كما يحدث في مدننا العربية والعالم الثالث.. فالقوانين لاتحمي العابثين، وهنا يأتي الفارق في نضج الشعوب وتخلفها، فالمواطن الواعي مؤتمن على رقابة أي سلوك خاطئ، وقد وجدنا من يبلّغ عن الهاربين من الضرائب، أو السرقات، أو قطع إشارة مرور، أو أي مخالفات تجعل الشعب رقيباً على نفسه، ونحن هنا لا نقول بمثالية أي شعب، وعدم وجود ممارسات خاطئة في سلوكه، وإلا لما كان القضاة والمحامون ورجال الأمن والسجون وغيرها، والمشكلة حين تكون الازدواجية معيار القياس لسلوك المواطن، فهو مدافع منفعل إلى أقصى الحدود في غربته عن وطنه، ولا يقبل أي مساس به، لكنه في الداخل كسول، غير مبال بالأداء في أي وظيفة ومهنة، وبهوس يعشق كسر القوانين والأعراف.. الحضارة، كما يقال، إنسان، لكن كيف نضعه في المكانة التي يصبح فيها أحد أعمدة البناء في جميع المسارات؟ نحن في الوطن العربي عندما هزمتنا إسرائيل في حرب 1967م قلنا إن السبب هو الفارق الحضاري والتقني، وهذا صحيح، وعندما بدأت اليابان نهضتها الحديثة جاءت لدولة عربية تريد الاستفادة من تجربتها، وأمامنا العديد من الوقائع والأحداث.. بناء المواطن يحمل مسؤوليات بناء الوطن، ولا نحتاج إلى سوْق العديد من النماذج العالمية، وكيف صارت دول صغيرة الحجم بجغرافيتها وسكانها، تنافس دولاً أكبر منها عشرات المرات اقتصادياً وبنموذجٍ حضاري متقدم.. الحرية مطلب إنساني لابد من تحقيقه، لأنه في المنطق وجوهر الأديان وجميع الأفكار المتقدمة التي تطرح المساواة بين البشر، لا تعني أن أجعل حريتك تصادر حريتي، وهذا المفهوم أعطى للدول المتقدمة أن تؤسس مشروعها بكفاءة غير مسبوقة.. الثروة البشرية إذا ما وجدت سياسة تخطط لجعلها مركز التنمية، سوف تكون الأداة الحضارية، ولو نظرنا للأداء الذي يعطيه الأوروبي، والأمريكي، والآسيوي ومقارنته بالشعوب المتخلفة لوجدنا أن العامل التربوي يأتي في الأولوية، وهو حافز السباق بين الشعوب لأنْ تبتكر وتصنع، وترفع معدلات دخلها، بسلسلة من الإجراءات التي تتناسب وقدرتها في الوصول إلى غاياتها البعيدة، وعندما يشهد العالم تظاهرة تتطابق مع مطالبها، فإننا أمام ظاهرة كونية علينا الاستفادة منها ومن نهجها..