ثورة الطلبة الفرنسيين عام 1968م أسقطت ديغول الذي يعد واحداً من عظماء فرنسا، لكنها الديموقراطية عندما تعتبر أن الحاكم إنما جاء لكرسيه من خلال التصويت من الشعب، مما يضعه أمام المسؤوليات الأخلاقية والالتزام السياسي، وعملية الاحتجاج تعني أن هناك خطأً نشأ سواء باتخاذ قرار تراه السلطة مصلحة وطنية، أو تطويراً للنظام، لكن الصوت المعارض قد يرى العكس، وهذا ما يعطي تلك الدول القيمة الكبرى بإدارة شؤونها وعلاقاتها.. ساركوزي يعيد سيناريو تلك المرحلة برفعه سن التقاعد من 60 سنة إلى 62 سنة، وهو ما أثار سخط الرأي العام عندما قادت النقابات الإضرابات، وهو السلوك المتحضر بوقف أي إجراء ضدها، ولعل الرئيس الفرنسي الذي يريد إحداث نقلة في إدارته، كما يتصور، ربما لم يضع في حساباته أن الرفض المقابل يستطيع أن يحرجه ويضعه في مواجهة لا يستطيع تجاوزها، وعكس ما يجري في العالم المتخلف حين تتحول الانتفاضة والاحتجاجات إلى تدمير المنشآت وقطع الطرق، وإحراق المحلات والسيارات بمفهوم الاحتجاجات الصارخة، وهنا يأتي الخلاف بين الوعيين والثقافتين، وهو ما يعطينا الدلالة بأن الدولة المتقدمة، تقيس الرأي العام في كل مناسبة وتخشاه ، بينما في العالم الثالث تُتخذ القرارات بدون تحفظ حتى لو كانت مغايرة للمصالح الشعبية لأن العقوبة مبعدة من قواميسها، ولذلك تأتي ردات الفعل عنيفة، وعلى الأخص عندما تنتقل تلك المجتمعات من حكم لآخر لتعبر عن سخطها بروح الانتقام كسبب أساسي للضغوط النفسية والقمعية التي عاشتها.. فرنسا ديغول كانت تعيش مخاض صراع اليمين واليسار، وانحسار المستعمرات وعودة الملايين منها مما خلق عجزاً اقتصادياً، واضطراباً سياسياً وكبحاً للحريات باسم حماية الأمن الوطني، وهي ظروف تلك المرحلة التي جعلت خوض الحروب الفرنسية في الجزائر وفيتنام نقطة الضعف المدمرة للدولة العظمى آنذاك، لكنها إرادة الشعب التي هيمنت على الشارع وقادت إلى التغيير، بما فيها إبعاد الرئيس.. ظروف ساركوزي الذي يريد محو صورة تلك المرحلة وإعادة هيبة الدولة دون مراعاة حالة الوضع الاقتصادي العالمي، وضغطه على فرنسا كجزء من المنظومة المتأثرة بالأزمة جعلت قراءة ساركوزي وتوقيته خاطئين، لأن التغيير أو إحداثه لأسباب ما لا تراعي رد الآخر، هو الذي أدى إلى المظاهرات والاعتصامات مما راكم خسائر تقدر بعشرات الملايين كل يوم، وفي هذه المواجهة أصبحت حالة الرئاسة مهتزة، بل إن شعبية ساركوزي وصلت إلى أدنى المعدلات، ولعل فرنسا السباقة دائماً لقيادة حركات التغيير في العالم بدءاً من ثورتها ومروراً بمراحل تطوراتها، تقوم الآن بما يشبه كسر الأذرع بين السلطة والشعب، وهي حالة إنذار لأوروبا لأي إعداد أو تنفيذ إجراء مماثل قد يخلق فوضى تضيف للأزمة الاقتصادية أزمة أخرى..