لاشك أن قرار «التمثيل السياسي للمرأة السعودية» يعد نقلة حقوقية نوعية توازي حجم المتغيرات الراهنة، وتحقيقها واقعياً يتطلب تجديد الوعي المتصالح مع المصالح، فالشريعة لايمكن أن تقف ضد المصالح السعي لتحقيق التنمية الإنسانية المنفتحة على الحق والعدل والمساواة هي الضامن الأكبر للاستقرار السياسي لأي بلد في العالم، والمشروع الإصلاحي العظيم لنهضة الأوطان، ولا شك أن قرار خادم الحرمين الشريفين- حفظه الله- مشاركة المرأة في مجلس الشورى تعييناً والمجلس البلدي انتخاباً وترشيحاً يمثل صورة بارزة لهذه التنمية الإنسانية التي تمنح الحق للمرأة بتمثيل سياسي مكافئ للرجل، فتشاركه المسؤولية الوطنية والتنموية والمستقبلية، ويعيد الحق إلى نصابه بعد أن جمّد وضع المرأة كإنسان كامل الأهلية، وقيدت حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بالإصر والأغلال، نتيجة تبريرات فقهية ذكورية تهدف لحماية سلطة الرجل وإدامة أمد احتكاره الغاشم للسلطة. قرار الملك حفظه الله يمثل قفزة حضارية ليست بمستغربة ولا بعيدة التوقع إذ هو دوماً شديد التأكيد على دور المرأة التنموي في ظل الشريعة السمحة، وهو ينطلق من هذا النبع العظيم للحقوق مستشهدا في خطابه الكريم في مجلس الشورى بما وهب الله الإنسان من كرامة وإنسانية، هذه الرؤية الواعية بالإنسان تستمد قوتها من لغة القرآن الكريم، إذ بين دفتيه منتهى التكامل والتماثل بين الرجل والمرأة "المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات.. والصادقين والصادقات... خطاب يصر على الكفاءة ويقدر الولاية البعضية المتكافئة للجنسين "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" هذه الولاية الإنسانية التي تقيم الحقوق وتبطل وتزهق خزعبلات الإرث الذكوري العنصري، تمثل هتكاً مشروعاً للحجج البائسة المقدمة في شكل تابوات عبثية طالما وظفّها أصحاب المصالح الذكورية لتغذية وتبرير نزوعاتهم الإقصائية للمرأة. لاشك أن قرار "التمثيل السياسي للمرأة السعودية" يعد نقلة حقوقية نوعية توازي حجم المتغيرات الراهنة، وتحقيقها واقعياً يتطلب تجديد الوعي المتصالح مع المصالح، فالشريعة لايمكن أن تقف ضد المصالح، والمصالح متغيرة ومتحوّلة ومتطوّرة، ومايصلح لزمن ما قد تجري المصلحة بضده في يوم آخر، وهو أمر تقره الطبيعة البشرية والحياة والأديان، لكن دعاة التشدد والتنطع في وقوفهم ضد تفعيل حقوق المرأة،وعزلها عن الحياة العامة يصورون جهدهم التآمري كمقدس ديني، وهم في الحقيقة بهذا المنطق الاستبدادي يدافعون عن وجودهم ومصالحهم، فالتأبيد على السائد يمثل بالنسبة لهم قيمة وجودية يعلنون الحرب على كل من يحوم حول حماه، لكن الفضاء اليوم مختلف، السبق فيه للإنسان ولاسواه...والقرار الملكي الإنساني العظيم لإحداث التنمية العادلة والشاملة في الوقت الذي يستمد قوته من الحق الديني فإنه يعد تمهيداً للاندماج في الحقوقية العالمية ويعني في ملخّصه الدفع بعجلة التنمية الشاملة والعادلة صوب التحديث المتوازن الذي تحدث عنه الملك أيده الله في مقدمة كلمته في مجلس الشورى"ان التحديث المتوازن والمتفق مع قيمنا الإسلامية التي تصان فيها الحقوق مطلب هام في عصر لامكان فيه للمتخاذلين والمترددين" الجميع يشعر بالفجوة مابين القرار الملكي المبارك، وواقع المرأة السعودية اليوم في ظل ثقافة مجتمعية راسخة عبثت بها أهواء المتشددين الذين يرون تهميش المرأة والانتقاص منها، وتعطيل أنسنة التعامل معها تطبيقاً للدين وانتصاراً للفضيلة، وهو الذي يرفضه الملك رفضاً باتاً، هذا الإعلان الملكي لرفض تهميش المرأة يحمّل المؤسسات التربوية والتوعوية والمنبرية وقبل ذلك وبعده وأهمه "القانونية" مسؤولية كبيرة، ويلزم المسؤولين بالقيام بأمانة النقد والتهذيب والتحديث والإصلاح، وإعادة النظر في التمايز بين النظرية والممارسة، فلم يعد متقبلاً ترديد شعار "الإسلام كرّم المرأة" في حين تحاصر فيه أبسط صور التكريم لحريتها وخياراتها، وحقها في تولي زمام أمورها بنفسها،واعتبارها مواطناً من الدرجة الأولى. ومانحتاجه اليوم لتفعيل القرار هو ترسيخ روحه في بنية النظام، ومؤسسات المجتمع، وهيكلة الخطط القادمة، وهو دور بالغ الحساسية والأهمية، لأن الفجوة بين القرار والواقع كبيرة جدا، والجهد المبذول أقل بمراحل من مستوى قرار يمثل نقلة نوعية على أعلى المستويات، لذا يتضاعف الدور شبه المجمّد للتعليم والمؤسسات الحقوقية والإعلام لتأثيث أرضية ثابتة تنبذ الجمود السياسي والاجتماعي تجاه المرأة، وتتبنى قيم الحرية والمساواة والحقوق المدنية بأمانة ونزاهة، وتمارس دور المراجعة والتصحيح والتغيير، وترتفع للمستوى الذي يلبي طموح إنسان الأرض، وهو التطوير الذي طالب به -حفظه الله- ملكنا المفدى. لقد أسعد الملك أسعده الله وسدد في مسيرة الإصلاح على الخير خطاه بهذا القرار التاريخي الذي مكن المرأة فيه من حقها السياسي ليس فقط المرأة السعودية خاصة، بل رحبت به كل الدول الديمقراطية، والمنظمات الإنسانية والحقوقية، ونهض بتزكية خطوته المباركة الضمير العالمي الذي يرحب بكل تقدم ينهض بإنسان الأرض في أي بقعة من الأرض. وكما أن القرار يختصر الكثير من الوقت والجهد لوضوحه وقوته ونبرته الجازمة الحازمة لضرورة التطبيق، إلا أن المناقشات حول تطبيقه التي أولت الشكل والصور جل الاهتمام، وتعمدت تهميش الإنسان والواقع خيب رجاء المخلصين ودفع بالمأمول إلى غياهب المجهول، لكن المرأة الحرة لا تتهيب الاندفاع للأمام فأمامها قرار ملكي عظيم، ولن يردع تقدم طموحاتها النقاش العقيم الذي ساد في أروقة المسؤولين عن شكلانية تفعيل القرار، فهي المعنية به أولاً، وهي التي عليها أن ترفض العنف الموجه لذاتها، كالحجب وعزل النفس وتنقية ذهنها من شوائب التابوات، وإزالة كل مظاهر الخوف من الرجل وتخويفه، وأن تؤكد للجميع أن افتراضا ثابتا في متحول متواصل هو قمة الجهل بالإنسان والواقع، وأن تنزع من عقلها الباطن رغبتها بأن تكون "ناظرة غير منظورة"، وهو مايفرضه عليها أصحاب أجندات التشدد والتنطع، ليلبسوا الحق بالباطل، ويبخسوا الخطوات العملية لتحسين أوضاعها ونيل حقوقها من الحظوة والتمكين. وإنه لمن المؤسَف له أنه رغم تشديد القرار على وقف تهميش المرأة في كافة المجالات، وإزالة معوقات تمكينها، لازال المسؤولون يلوكون التصريحات المتدثرة بخباء التراث، التي تصر على لغة الهودج في فضاء الحياة المدنية الحرة، وبدل أن يبدأوا بتأثيث أرضية خصبة تمهيدية لتفعيل القرار وإقامة أساساته على فضاء إنساني يسعى لكسب الكفاءات النسائية التي ترقى لمستوى الأمل والطموح لتحقيق التنمية الشاملة، نراهم يتشاغلون بجدلٍ هزلي منكفئ للخلف، ينكر التعامل الإنساني بين الرجل والمرأة ويقيم ضده الأسلاك الشائكة المكهربة على الدوام، إلا إن تلك التصريحات العابثة بروح القرار سيتجاوزها الزمن كما تجاوز دخول المرأة للأنترنت بمحرم، وكما دفن الوعي بلا أسفٍ "صوت المرأة عورة" يقف اليوم في مواجهة قوية مع وجهها الذي لاشك أنه هويتها وليس عورتها كما يدلس المدلسون!!،فالقفزات الحضارية تحيي العقول وتصونها عن الاستماع لترهات الطابق الأول والثاني، وكما أن آدم أبو الإنسانية فحواء أمها، ولا يمكن فصلهما! مهما تذرعت به حجج التراث المأفون بهوس الفصل الإنساني. نعلم أن استيعاب المسؤول للقفزة التاريخية خطوة ليست يسيرة، لكن واجبه يحتم عليه احترام من ستقاسمه قبة الشورى، ومن يخشى على نفسه جلوس المرأة في المجلس ليس من حقه مطالبتها بالتخفي، لأنها عضو مثله تماماً، فإما أن يرضى بمكانه، أو ليتنحى مشكوراً. وأذكّر المسؤول في الشورى، في القضاء، في التعليم، في المنبر، في كل مجالات الحياة أن يستمع لهذه الحكمة العظيمة من خادم الحرمين ويستوعبها جيدا بأنه"لامكان للمتخاذلين والمترددين" ،فالكونجرس السعودي لايمكن أن يأتي شذوذاً عن العالم من طابقين، ولاتستوعب ثقافته مجلس رجال و"مقلّط" حريم. ختاماً: كيف نجعل هذا الحق متقبلاً؛ حق وجود المرأة ككائن مساو للرجل في كل المجالات؟ سؤال يجب أن يمارس باستمرار على الواقع، ليؤسس لنهضة ذهنية توعوية تنسخ الترهات، وترسخ ثقافة الإنسان.