شعر الغزل من أجمل الشعر، ذلك أنه ينم عن مكنون الأفئدة، ويعبر بصدق عن مشاعر الإنسان الشاعر وتطلعاته وأمانيه. وإذا كان الرجل ينسج – أحيانا – الشعر ملتمساً القرب أو بهدف الابداع فإن المرأة تبدع الشعر بدوافع صادقة ألماً وتحسراً كانت أو حماساً وتفاعلاً مع أحداث، ولذا قل عدد الشاعرات نسبة إلى عدد الشعراء، وجمل شعرهن لدى المتلقي. ولما كانت حياة المجتمعات البدوية في الماضي تعاني من عدم الاستقرار ومن الخوف ومن الانتقال وراء سحابة عابرة، ومن العداء بين القبائل حتى عاد الولاء للقبيلة أمراً محسوماً لا يمكن الخروج عليه مهما ألف الجوار والمصالح المشتركة بين الأطراف المتحابة فإن تقلبات الأحوال الاجتماعية كثيرا ما تعصف بالمحبين وداً عابراً كان أو معقوداً بزواج، ومهما اضطر الأصدقاء إلى التباعد فإن وشائج المحبة بين المحبين تظل في مضان القلوب، فيلحق الزوج بقبيلته وتبقى زوجه رهينة الأنفة، تقارع الولاء للقبيلة وتعاني من أشجان الفرقة. ومن ذلك أن إحداهن تزوجت رجلا من قبيلة كان يجمع الوفاق بينها وبين قبيلة الزوجة ثم حدث خلاف بين القبيلتين فاحتفظت كل قبيلة بابنها وافترقتا، فإنه من العار أن تفضل الزوجة البقاء مع زوج تعادي قبيلته قبيلتها، وظل الزوجان يعانيان من ألم الفرقة التي طالت ولم يفقدا المودة التي تشد كلاً منهما إلى الآخر بل ظل كل منهما يتلمس أخبار الآخر، وكما يشير الأستاذ عبدالله بن رداس في كتابه «شاعرات من البادية» بلغ الزوجة من أحد الرعاة أنه قابل زوجها وسأله عنها، وأنه يتلقف أخبارها كلما صادف من يعتقد أنه يعرف أخبارها. وحينما تلقت هذا الاهتمام منه تداعت ذكرياتها، ولاحت لها صور الماضي، واستقبلت نسائم الود التي تنبعث من كنائن الكراهية الناشئة بين القبيلتين: سرّنى بُشْرى خبر ريف الفوادِ عن سواد الناس ودّه ينتحي بي قمت عَجْلة باغية طير الهدادِ ابا تروّى من تعاليل الحبيبِ كان وقع الخبر عليها جميلاً بل هو بشرى بسلامة ربيع قلبها (بادي) زوجها، وكان لابد وأن تبتعد عن الناس لتستمتع بلذة هذا الخبر، بل إن محبته كثيرا ما تدعوها للخلوة بعيدا عن الناس لتستعيد ذكريات الماضي وتحلم بالمستقبل، ومن طبيعة الصدق في المحبة اعتزال الناس في الأوقات التي لا تجمع الطرفين بهم. وهذا الخبر تود أن تنفرد باستعادته لتروي عطشها لفرقة من تمتدحه حينا بريف قلبها وربيعه وحينا بوصفه صقرا يفتك بطرائده، لذا سارعت للتعلل بهذا الخبر وما أثار في نفسها من شجن. ثم تصف أسباب الفرقة بين قومه وقومها: قَوْمته قَشْرا على حالي نفادِ كنِّي اللي واقعة وَسْط القليبِ ليتني في فزِّتي واجهت «بادي» كُود يَنْهبني وليفي ويْغَدي بي كان موقفه من قومها عنيفا، وأوقع الضرر عليها، وتتمنى أن لو تمهل أو خطط لينهبها معه، حتى لا تكون ضحية تلك الفتنة، ثم تلومه على تسرعه: ليش ما ريَّضْت ليه بالقعاد لَيْن أشدك بالأيادي من قريبِ ليت يوم انه تعنَّى كان فادِ شالني بالليل من مِرْح العَزِيبِ وتتمنى أيضاً طالما أنه يحن إليها أن لو غامر وانتزعها من نجعتها حيث يعزب الرعاة بمواشيهم بعيداً عن المضارب حيث العشب والكلأ. هذا الصراع المضني لم يشهده الجيل ولكن الشعر احتفظ به ليرينا قسوة الحياة حين يضطرب الأمن ويسود الأقوى دون رحمة بالضعفاء ودون تقدير لمعقبات الأحداث. وحب الأزواج عشق شائع في البادية، لأن هذه العلاقة تنشأ عن حب واعجاب وولاء يؤدي إلى الاحترام، وغالبا ما يقع بين أفراد الأعيان في القبيلة حيث ينشأ الأفراد بنين وبنات على الفضائل المنشودة في المجتمع، ولذا يكتسبون احترام أولياء أمورهم فلا يمضون أمراً يخصهم دون مشورتهم وقناعتهم، والمحبة بين الرجل والمرأة تقام على أسس متينة وتميز ينفرد به كل منهما. ولما كان المجتمع البدوي معلقة أنظار أفراده بالسماء يتبعون السحب أين تمطر فقد أحبوا حياة البيد ربيعها وفضاءها وجوها العليل ورغبوا عن حياة الاستقرار الرتيبة فإن التنقل قد يعقب ألم الفرقة وحرقة الشوق وبخاصة عندما يتملك حب الفيافي عشاقها ويصبح حب الزوجة رديفا لعشق الفيافي، مثلما عانت منه الشاعرة مويضي الدهلوية عندما تزوجت رجلا محبا للفيافي المربعة وغادر مويضي في بلدة الرس فأثار حنينها قريحتها الشعرية شوقاً إليه: يا الله يا مُوصل غريبٍ بلاده يا مجريٍ سفن البحر فوق الامواج تْرِيح قلبي في مضَنَّة فواده إن كان ما طاوع بنا كل هرَّاج أمي توصِّيني تقول: الجلادة وقلبي اذا جا طاري البدو ينفاج هذه معاناتها، ويبدو أن شوقها للفيافي من شوق ضنينها ولكنها ربما تخلفت عنه لطارئ منعها من مصاحبته، والمرأة المحبة تشغلها الظنون ولا تستطيع كتمان معاناتها عمن حولها حتى غدت حيرى بين نصح أمها بالتصبر والجلد وبين شوقها إلى مغاني البادية وفياض الربيع. ثم تخاطب الغائب المبتهج بالربيع: سوَّيت لك ريش النعايم وسادة والبطن لك يا قَرْم الاولاد مسهاج هذا من إعزازها له، أما امتداح شجاعته فتؤكدها بمعالم معروفة في ديارهم: مودع على ... كدرا عجاجه هجيجهم من بين ابانات وسْوَاج كان ذلك في الماضي الذي غيبه الاستقرار والأمن وائتلاف المجتمعات المحلية الذي تنعم به بلادنا في ظل وحدتها الوطنية. أما كيف يبدع شعراء الماضي تلك الصور لحياتهم فإن المرارة تبرز الحلاوة، وتقلبات أيامهم بين كر وفر يوم لك ويوم عليك يعزيهم في الفقد والخسارة والتي لا تحدث جزافاً وإنما يعقب الخسارة شعور بالرضا للاستماتة دون الحقوق، ويعقب الفوز حذر من الآتي واسترداد الحقوق المسلوبة، وتلك الفوضى يصاحبها شيء من التنظيم والرحمة التي يصنعها العقلاء من تنظيم العلاقات بين القبائل المتحاربة، وحفظ الحقوق بشيء من الروابط التي تخفف من اجحاف الصراع وعنف سيطرة أصحاب النفوذ، هذه السيطرة والاستغلال تأخذ أشكالاً متفاوتة في كل زمان ومكان ولكنها لا تظهر جلية إلا لمن يعاني من سطوتها. وأختم بأبيات لشاعرة تتوجد على زوجها حزنا لفراقه وحبا له: ما كل رجالٍ يحَفْظَ الوداعة ولا كل من ركب النضا يتعب النِّيب يا ابو فهد فرقاك عندي مراعة علَيْ صعبة يا حَصَان الاطاليب دنيا تفرِّق حاضبين الجماعة غبراً، عوايدها فراق الاصاحيب كم بَهْذلت من كاسبين الشجاعة آخر سو الفهم حلوم وتعاجيب حياة من ياذن لدرب الشفاعة إنك من اغلى الناس عندي بلا ريب حل الفراق اليوم هذا وداعه ودعتك اللي يعلم السر والغيب هذا منهج الواثقين بأنفسهم، المؤمنين بنفاد الأقدار، قدر الفراق بينهما فلم تسرف بذم أو نكران، ونحن لا نعلم أسباب الفرقة، ولكننا نؤمن بأنه لا يجب اتباع السوء سوءاً وحسب المرء مرارة الحدث لا يضيف مرارة أخرى يندم عليها ذات يوم، بل إن ما ذهبت إليه الشاعرة هو من أدب الحوار لا مزيد على الألم.