كان لنا مع سورة يوسف وقفات تحدثنا فيها عن بعض الدروس التربوية التي يمكن استنباطها من رؤيا يوسف وقبل ذلك رؤيا الملك، واليوم نتوقف عند حادثة سجن يوسف كما وصفها القرآن نستلهم منها بعض الدروس والعبر حول واقع الأمة الحالي، ذلك أن الله أنزل القرآن لكل زمان ومكان وهذا يستوجب أن القصص التي ذكرت في القرآن إنما عالجت مواضيع تهم الناس وفيها من العبر والدروس ما ينفعهم في كل زمان، فليس من الصحيح أن نتصور بأن تلك القصص كانت الغاية منها نقد أو تقريع الآخرين كما يظن البعض، فإن هذه ليست غاية القرآن ولا رسالته. بهذا الفهم درسنا بعض الجوانب من قصة يوسف في القرآن محاولين الوصول إلى بعض المعاني التي جعلت من تلك القصة من الأهمية بحيث يوردها القرآن بهذا الشكل من التفصيل. يوسف عليه السلام مرّ في حياته بمنعطفات مهمة أدت بالنتيجة الى وصوله للغاية التي أرادها الله له، ومنها دخوله السجن، حيث تذكر القصة بأن النخبة الحاكمة في مصر آنذاك قد أزعجتها الضجة التي أثارتها نسوة علية القوم وسعيهن للإيقاع بيوسف في الرذيلة وامتناعه عن مجاراتهن فيما يدعونه إليه فوجدت أن الحل الوحيد أمامها هو بإلقاء يوسف في السجن، " ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين"(يوسف-35) . وحول هذا الموقف من الطبقة الحاكمة أو "النظام" بلغة اليوم نود أن نذكر الملاحظات التالية: أسلوب الآية يوحي بأن الملأ قد فكروا جديا في موضوع المشكلات التي تثار حول سعي النسوة للإيقاع بيوسف في الرذيلة، وأن امتناعه عن مجاراتهن في ذلك سبب لهم المشكلة، وأول ما يتبادر إلى الذهن بأن يوسف لو لم يمتنع وفعل ما تؤمره به النسوة لما حصلت تلك المشكلة، وهذه دلالة واضحة على عمق الفساد الأخلاقي الذي كان مستشريا في ذلك المجتمع. والفساد لا يكون في جانب واحد من جوانب الحياة وإنما ينخر في جسد المجتمع من جميع الجوانب، فالفساد الأخلاقي هو نتيجة أو ثمرة من الفساد الإداري والاقتصادي والسياسي. ومع أن موقف يوسف قد منح تلك الطبقة الأدلة الواضحة على عمق الفساد المستشري في المجتمع، وأن مسؤوليتهم بوصفهم قادة المجتمع إنما تكون في إيجاد الحلول لمعالجة مشكلات الفساد، ولكنهم بدلاً من أن يفكروا بالحلول آثروا أن يفعلوا ما تفعله النعامة أمام الخطر الداهم وذلك بإدخال رأسها في جحر في التراب اعتقاداً منها بأن ذلك من شأنه أن يحل المشكلة، وبالفعل فقد قرروا إلقاء يوسف في السجن. وهذه تقودنا إلى إستخلاص واحدة من أبرز السمات التي تلازم الأنظمة الفاشلة في الحكم، وهي غياب المبادرة في حل المشكلات والاعتقاد بأن هذه المشكلات سوف تذهب وتختفي من دون عناء، "ليسجننه حتى حين"، أي إلى حين ذهاب المشكلة وإختفائها، غير مدركين بأن المشكلات التي تترك من دون حلول لا تختفي بل تكبر وتستشري. وفي المقابل نجد أن القيادة الحكيمة التي تكون على تواصل مستمر مع شعبها، تحس بما يحس به ويعانيه، ولذلك نراها تتقدم بالمبادرات قبل أن يطلبها الناس، لأنها إذا أوصلت الناس إلى الدرجة التي يطالبون فيها بحاجاتهم فهذا دليل على ضعف التواصل، ولذلك يبادر المسؤول الحكيم بدراسة مطالب الناس ومكاشفتهم ومحاولة تحقيق رغباتهم المشروعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً. وتكون الطامة عندما يتجاهل الحاكم مطالب الناس ولا يقف عندها، لا بل لا يجد غير العنف وسيلة للتجاوب معها، وعند هذه النقطة يحصل الانفصال الكامل بين الحاكم والمحكوم. وهكذا برهنت الطبقة الحاكمة في مصر بأنها مفلسة في عالم الأفكار والإبداع في إيجاد الحلول للمشكلات الإجتماعية، وذلك لأنها لم تفكر في أساس المشكلة وهي الفساد الأخلاقي فآثرت إلقاء الضحية في السجن، ويا له من دليل واضح وجلي على إفلاس تلك الطبقة وضعفها، ولسوف يأتي الدليل الأكبر على إفلاسهم في عالم الأفكار والحلول عندما تأتي رؤيا الملك وتضعهم أمام إشارة واضحة إلى كارثة محدقة بالأمة، لكنهم يتجاهلون تلك الإشارة بأنها "أضغاث أحلام"، ولا يجدون الحل إلا عند نادل الملك الذي يدلهم على الشخص الذي ألقوه في السجن. وهذه المسألة تدلنا إلى نتيجة مهمة في المجتمعات التي تقودها قوى متسلطة، وهي التخلف العام الذي ينتج من إفلاس القيادة في عالم الفكر ويجر بالأمة إلى مواطن الهلاك. إن الدولة التي يوضع فيها يوسف وأمثاله من أصحاب المبادرات في السجون والمعتقلات، بلا شك دولة فاشلة لا تستحق الحياة. والسمة الثانية للأنظمة الفاشلة هي استخدام العنف والإرهاب في التعامل مع المصلحين من حملة الأفكار المنافية لما يؤمن به النظام، ولذلك جاء الحكم في قضية النسوة بحبس يوسف حتى حين مع أن الدلائل كلها أشارت إلى براءة يوسف. إن التجارب البشرية منذ قيام الخلق على هذه الأرض تثبت بأن التعامل الأمني مع الحركات الفكرية المعارضة لا يجدي نفعاً مهما كان التفاوت في موازين القوة لأن القوة ليست البديل عن الإصلاح. فهذه قوة الدولة الرومانية التي كانت من أقوى الدول عسكرياً وسياسيا وكانت تجيش الجيوش بمئات الآلاف من المقاتلين شرقاً وغرباً لم تصمد أمام دعوة المسيح عليه السلام مع قلة عددهم وتفوق خصمهم عليهم، وكذلك كان مثال أتباع الرسول صلوات الله وسلامه عليه ومحاولة قريش إطفاء نور الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية. وهنا لا بد من التنبيه إلى أن واجب الدولة المحافظة على الأمن واتخاذ جميع التدابير الأمنية لحفظ الأمن والأمان مؤمنين "بأن الله لينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن"، فالسلطة يجب أن تمتلك كل مقومات القوة والتي منها قوة الإيمان وقوة الترابط الاجتماعي والوحدة الوطنية ثم القوة المادية التي ترهب كل من تسول له نفسه المساس بأمن البلاد والعباد، ولذلك فالمطلوب من الجهات الحكومية التعامل مع القضايا الأمنية ضمن التصور الشامل لمفهوم القوة وعدم التضحية بوحدة الأمة والمجتمع في سبيل المحافظة على النظام، ذلك لأن النظام إنما هو جزء لا يتجزأ من المجتمع وكيانه ووجوده مرتبط به. والسمة الثالثة التي تميز الأنظمة الشمولية الفاشلة التي نستبطها من قضية سجن يوسف، هي غياب المراجعة، فالطبقة الحاكمة توصلت بعد التفكير الكثير في المشكلة بأن سجن يوسف حتى حين هو الحل للمشكلة، لكن أحدا لم يجرؤ على السؤال "لماذا هذا هو الحل؟" و "كيف سوف يؤدي حبس يوسف إلى حل المشكلة؟" إن وجود المراجعة هي دليل واضح على قوة النظام والعكس صحيح. ولذلك فقد علم الرسول صلوات الله وسلامه عليه أصحابه أن يراجعوه في قراراته وكان أكثر الناس استشارة لأصحابه وهو المؤيد بالوحي، فكانوا يقولون "أهو وحي أوحاه الله إليك، أم هو الحرب والمكيدة؟" فهذه إن صحت في جانب الرسول صلوات الله وسلامه عليه فغيره أولى وأحوج لها. ولذلك كان الصحابة يراجعون عمر بن الخطاب في قراراته وكان ينزل عند رأي الناس، حتى أنه عندما أراد وضع حد لارتفاع المهور، وهذا من حق الإمام، ردت عليه امرأة بآية من القرآن. ومع أن عمر كان بإمكانه أن يرد على المرأة إلا أنه آثر النزول عند رأي المرأة. إن توفير حرية الرأي الملتزم بالمصلحة الاجتماعية من شأنه أن يمنح المجتمع فرص المراجعة السليمة للقرارات التي تصدر، وهذه تؤدي إلى فائدتين ، أولاهما منح أصحاب القرار الفرصة لدراسة القرارات من مختلف الجوانب وتمنحهم الفرصة لتعديل ما قد لا يكون مناسباً. والثانية هي أن المجتمع سوف يكون أكثر إيماناً بتلك القرارات التي جاءت بعد المراجعة وإبداء الرأي وتؤدي الى أن يحافظ المجتمع على وحدته من أن يستغلها الآخرون. * السفير العراقي لدى المملكة