معظم إن لم يكن كل الأفكار والسلوكيات السائدة بيننا هي لأشخاص أخلصوا وتفانوا صادقين في تثبيتها ونشرها واجتهدوا لتعزيزها موقنين بجدواها وصحتها وأهميتها ، الأفكار والمعتقدات تحتاج لجهد وإخلاص صادق وحقيقي كي تكون على أرض الواقع ، وكلما زاد يقينك وثقتك بفكرتك ومعتقدك كلما قابلت التوفيق والانتشار بين الناس والتمسك بها ، وللإخلاص بحد ذاته طاقة هائلة ونفاذ ساحق يخترق المسافات والأزمنة بصرف النظر عن جدوى الفكرة وقيمتها ومنفعتها للعالم فقد تكون فكرة سيئة ومدمرة ولكن إخلاص صاحبها لها هي من عززت مكانها ونشرت رقعتها فالصدق في العمل والتفاني من أجله لا علاقة لهما بنوع القضية وليس دليلاً على الخير فيها ، إذن كيف تعرف أن فكرتك الذي ستناضل من أجلها صالحة ومجدية ونافعة ؟ لن يحصل هذا حتى تتنازل عن سلوك الثقة واليقين بنفسك وأفكارك ومسلكك وتفتح ذهنك للآخرين وتستمع لهم وتقرأ لغيرك وتشاور من حولك وتنصت لمن يخالفك الرأي والتوجه وتعطي نفسك فرصة النقاش معها حول ما لا ترتضيه وتحسبه غير صحيح ومجد ، وأن تقر بأنك لم تصل للحقيقة بعد وأنها مازالت تستحق من يبحث عنها وأنها ليست ملكاً لأحد أولهم أنت ، معظم الطغاة ومن دمروا الأرض كانوا على يقين أن ما يفعلونه هو الصحيح الحق وهو النافع وهو الذي فيه مصلحة البلاد والعباد فانطلقوا في الخطأ والدمار ، بينما تميز كل العلماء والمكتشفين بأنهم متشككين لذا حصلت على أيديهم الاكتشافات والتغيرات ، المتشكك باحث دائم ، اليقين سبب رئيسي للجمود والقبول بما هو موجود ومتعارف عليه ، حتى أصبح ثابتاً لا نقاش فيه أو حوله وبسبب اليقين تشن الثورات والمعارك لأي متشكك ، ليس متشككاً بل متسائل !! اليقين حرم التساؤل والاستفسار واعتبره اهتزازا وزعزعة في المعتقدات والدين والأخلاق وكل تساؤل هو بمثابة تهمة للمتسائل يستحق عليه الردع وأحياناً العقاب والجزاء ليكون عبرة لغيره من المتسائلين أو المتشككين لذا تحاشى الناس التساؤل ومع مرور الوقت تبرمجوا على ذلك وأصبح الوضع مجرد أسئلة لتكريس المتعارف وتعزيز اليقينية فيه !! المجتمعات التي يحظى أفرادها بحق التساؤل والتشكك دون شن حروب عليهم أو إدانتهم ومصادرة آرائهم هي المجتمعات المتطورة على مستوى الأفراد الذين يعتبرون السبب الرئيسي في تقدم المجتمعات أو تخلفها حيث ان التساؤل والشك هما إحدى السبل الأساسية للحراك والبحث والتقصي ، تقبل الإنسان المتشكك والمتسائل لا يعني تنفيذ ما يقول والأخذ به ولكن منحه حقه الإنساني في التساؤل دون أن يلحق به أذى أياً كان نوعه لا سيما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة العالمين قد قال ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) .