لطالما استوقفني الحديث النبوي الشريف «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة». فالدعاء بلا شك عبادة والأمر به لا يستغرب، إلا أن هناك قدراً زائداً على هذه القضية، ألا وهو الأمر باليقين حين الدعاء. فما قيمة هذا اليقين وما معناه؟ إن اليقين هنا، وسيلة للحصول على المراد وإجابة الدعوة. ولا يمكن أن أفهمه إلا هكذا. لِمَ إذن يدعو بعض الناس ولا يستجاب لهم؟ هناك أجوبة كثيرة للفقهاء وشرّاح الحديث عن سبب الامتناع، وعن حلول تعويضية لعدم حصول المراد. لكن هذه الحلول تفرّغ الحديث من معناه. ولا تجيب إجابة قاطعة مانعة تشفي. ففي قاموس لسان العرب: «اليَقِينُ: العِلْم وإزاحة الشك وتحقيقُ الأَمر، وقد أَيْقَنَ يُوقِنُ إيقاناً، فهو مُوقِنٌ، ويَقِنَ يَيْقَن يَقَناً، فهو يَقنٌ. واليَقِين نَقيض الشك، والعلم نقيضُ الجهل، تقول عَلِمْتُه يَقيناً». عندما تكون لك حاجة، فارفع يديك بالدعاء واطلبها بإلحاح وعاطفة صادقة ولا تخفض يديك إلا عندما تصل لدرجة اليقين أن الله قد أعطاك ما سألت. فإذا خفضت ذراعيك ثم شككت في حصول ما رغبت فيه، إما لأن ظروفك المادية لا تسمح بحصولك على هذا الشيء الغالي على نفسك، أو لأن الأسباب والسبل والأحداث كلها ضدك والتيار يسير بعكس اتجاهك، فاعلم انك بحاجة لحركة تصحيحية. لا تفكر في الأسباب المنطقية ولا تنظر إلى الظروف الزمانية والمكانية، ولا تحاول أن تحلل لِمَ حدث هذا ولَمْ يحدث ذاك. لا تذهب لهذه المنطقة بتاتاً. وتذكر أن كل شيء لله، وأن الله أكرم الأكرمين، وأنه لا يستجيب الدعاء من قلب غافل لاهٍ، وأنه لا يرد من رفع يديه إليه راجياً عندما يمتلئ قلبه باليقين والإيمان. إذن فمشكلتك مع نفسك وشكك وضعف الإيمان في قلبك. أو ربما أنك ممن لديهم تصور خاطئ لمسألة القضاء والقدر، ممن يقول ندعو ونطلب ولا ندري ما هو المكتوب، فربما أن الله قد كتب أنه سيحرمني. من يتحدث بهذه الطريقة يحتاج لتصحيح فهمه لمسألة القضاء والقدر. فكل هذا غلط. فأنت تصنع المكتوب الآن بحسب علمك. أما علم الله ففوق أن يتصوره عقلك. ولعل أكبر نكبات هذه الأمة سببها هذه النظرة الجبرية الموجودة عند غلاة المتصوفة التي أقعدت أتباعها عن الفاعلية والتأثير بحجة أن كل شيء مكتوب. لذلك فعليك أن ترفع يديك مرة أخرى فتسأل الله تلك الحاجة وأنت موقنٌ يقيناً لا يوجد فيه ذرة شك واحدة، أن ما أردت سيحدث وأن الله سيهبك إياه. ولا تخفض يديك حتى تصل لهذا الشعور العميق والإيمان الراسخ بالتحقق والارتياح الذي يجيء بعده. فإذا خفضت ذراعيك فابتسم وافرح من قلبك مسروراً بهذه الهبة الربانية والسلاح الذي لا يفارقك في ليل ولا نهار. افرح بهذا العون والسند الذي سيقلب معاناة الحياة ومصاعبها ومشكلاتها إلى جنة تعيشها في حياتك هذه قبل دخول الجنة. لا تراقب عدم حدوث هذا الشيء الذي حلمت به وطلبته، لأن مراقبة عدم الحدوث تدمر كل ما فعلت. تشاغل عن هذا بأن تفعل أشياء صغيرة تبقيك مسروراً راضياً. لا شك أن الشك في التحقق سيعاودك بين الفينة والأخرى. لكنك إن وعيت ما أحدثك عنه هنا، فستتعود أن تتعلم آليات كثيرة لطرد الشك وتقليل الثواني التي تتسلل فيها الأفكار السلبية لذهنك. لا بد أن تعلم أن الذين يشكّون هم الذين لا يستجاب لهم. وأنك لن تصل لهذه الحالة حتى تخرج من مستنقع الشك، وحتى تدرك عدم جدواه، وحتى تنتصر -باختيارك- لجانبك الروحي فتغلّبه على جانبك المادي، فالروح هي القيمة وهي الأخلاق وهي الخلود. هذه الطريقة الإيجابية في التفكير والنظر للأمور ليست بدعاً من الحديث، بل لو تأملت السنة النبوية والسيرة لوجدت أنها من ألفها إلى يائها تنطق بهذا المنهج. لقد كان (صلى الله عليه و سلم ) يعيش هذا التفاؤل وهذه الإيجابية وهذا اليقين الذي لا شك فيه في كل لحظة من لحظات حياته. ولو خصصت كتاب الأدعية من أي كتاب من كتب السنة بالبحث، لوجدت هذا يتجلى بصورة أكثر صراحة وأكثر تركيزاً. «رب أشعث أغبر، لو أقسم على الله لأبره» هذا الأشعث ليس حالة خاصة ولا منزلا من السماء. بل يمكنك أن تكون ذلك الأشعث الأغبر عندما تتطهر كلية من الشك ومن أدران النظرة المادية، وعندما تغلب عليك الروح المتصلة بالله دوماً وباستمرار لا ينقطع، في صدق ونقاء.