لأول مرة يسمع الإنسان العربي (في بُعده الجماهيري الذي قضى عمره ضحية الإعلام المُوجّه / المُرَاقَب) الرأي الآخر مدعوما بأدلته وبراهينه ، لأول مرة يسمع غير ما كان يُكرره على مسامعه القادة الانتهازيون ، والزعماء الكاذبون ، والمفكرون الواهمون ، والخطباء الغاضبون . بدأ الإنسان العربي يسمع ويرى كل صور الاختلاف ما بين سقوط جدار برلين ، وانهيار بُرجيْ مركز التجارة العالمي ، كان العالم - على اختلاف في الدرجة لا في النوع - يعيش مخاض العولمة التي ستترسخ باطراد ؛ لتظهر أشد ما تظهر لنا اليوم في هذا الزمن العربي الجديد ، هذا الزمن الجديد الذي اشتبك مع العالم المتحضر في قيمه الإنسانية العليا ؛ فأحدث انقلاباً على تاريخه الطغياني الطويل ، ذلك التاريخ العابر للإنسان . طبعاً ، لم يتعولم العالم في عقد واحد من السنين ، وإنما كان هذا العقد هو الخط الفاصل - نسبيا - بين زمنين متمايزين . هناك سنوات المخاض المتخمة بتحولات الوعي قبل سقوط الاتحاد السوفياتي ، والتي كانت سنوات حاسمة ؛ رغم أن أثرها لم يظهر إلا فيما بعد . كما أن هناك في المقابل كثيرا من مظاهر ما قبل العولمة (أي المضادة للتعولم في كل صوره أو في أغلبها) مما لا يزال باقياً في وعي كثير من الشعوب إلى الآن. عندما نقول : تعولم العالم ، فهذا يعني أنه انحاز انحيازا واضحا إلى قيم الثقافة الغربية في توجهها الليبرالي خاصة . لم تكن ثمة عولمة ؛ عندما كانت التوجهات الاشتراكية ذات النفس الشمولي تنافس - وبإغراء شديد - منظومة القيم الغربية المتحدرة إلينا من تراث عصر الأنوار الأوروبي . أي أن الإنسان المُلغى في وجوده الحقيقي (= الفردي) لم يكن يحظى باهتمام حقيقي إلا في شطر العالم (= العالم الغربي) ، بينما كان الشطر الآخر يطرح بقوة نظرية الإلغاء ؛ معززة بقوة نفوذ المعسكر الشيوعي ، رغم كل صور الإخفاق التي رافقت التطبيق. عندما انتصر الغرب الليبرالي ، وعندما تجلت رمزية الانتصار الكبير في سقوط جدار برلين ، كان هذا يعني أن العالم أصبح عالما ليبراليا في قيمه العليا التي تحكمه ؛ لأن الذين أسقطوا جدار برلين لم يكونوا أكثر من عشاق للحرية الفردية التي رأوها رأي العين على الضفة الأخرى من العالم الأوروبي . لقد رأوا بأعينهم كيف يشقى الشطر الشرقي من القارة الأوروبية بسبب الرؤية الشمولية التي تحكمه ، وكيف يسعد الشطر الغربي منها ؛ نتيجة الانحياز الكامل إلى الإنسان الفرد كما تجلى في تراث فلاسفة التنوير. من جهة أخرى ، كانت الضربات الإرهابية التي حطّمت بُرجيْ مركز التجارة العالمي في 11/9 فاتحة لعصر جديد . والسبب في ذلك أن العالم الغربي كان مزهواً بانتصاره على المعسكر الشيوعي ، وكان مستشعرا لذة زوال الخطر الأحمر ، ومُقدرا أن لا خطر عليه من العالم البعيد (= العربي - الإسلامي - دول الجنوب) ؛ مهما بدا هذا العالم غارقا في طوفان من التطرف والتخلف والطغيان. اكتفى الغرب بأن حمى نفسه من بعضه ، داوى المعتل من أعضائه ، ولم يشعر آنذاك بأن العولمة كما تضمن له نشر وتعميم قيمه ، فهي تحمل - في الوقت نفسه - إمكانية نشر وتعميم الخطر الإرهابي . لهذا ، كانت مفاجأة للغرب أن تصل إليه بعض حمم البركان الإرهابي التي لم يتصور أنها يمكن أن تطاله . لقد كانت لحظة فاصلة في تحديد طبيعة تعاطيه مع أنظمة القهر والاستبداد ، فضلًا عن طريقة تعاطيه مع ثقافة التطرف والإرهاب. في هذا المفصل التاريخي الممتد لأكثر من عشر سنوات (= ما بين سقوط جدار برلين وأحداث الحادي عشر من سبتمبر) كانت العولمة تأخذ بُعدها الآخر والأهم من خلال التطورات الهائلة في وسائل الإعلام والاتصال . خلال هذا العقد سقطت الحواجز ، وأصبح العالم بحق غرفة صغيرة لايمكن تقسيمها إلى مناطق معزولة ، بل أصبح الجميع يتأثر بالجميع ويؤثر في الجميع ، بعيداً عن وسائل الرقابة التقليدية التي وقفت مذهولة أمام هذا الانفتاح القسري الكبير . لأول مرة يسمع الإنسان العربي (في بُعده الجماهيري الذي قضى عمره ضحية الإعلام المُوجّه / المُرَاقَب) الرأي الآخر مدعوما بأدلته وبراهينه ، لأول مرة يسمع غير ما كان يُكرره على مسامعه القادة الانتهازيون ، والزعماء الكاذبون ، والمفكرون الواهمون ، والخطباء الغاضبون . بدأ الإنسان العربي يسمع ويرى كل صور الاختلاف ، بدأ يقترب من فهم الآخر ، بدأ يعي أن الآخر ليس عدوا بالضرورة ؛ حتى مع بقاء كثير من نقاط الاختلاف ، بل حتى مع بقاء بعض نقاط الاختلاف التي قد تستدعي نوعا ما من أنواع الصراع. حتى القضية الفلسطينية ذات الزوايا الحادة المقدسة التي طالما ضرب على أوتارها المرهفة في الوجدان العربي المؤدلجون ، وخضعت لمزايدات لا حدود لها ، باتت قضية قابلة لأن توضع تحت التحليل السياسي العقلاني البارد ، التحليل الذي يأخذ في الاعتبار وجهات نظر الآخرين ، التحليل الذي يعرف أن الآخر وإن كان لا يمتلك الحق كله أو معظمه ، فإن هذا لا يعني أنه بلا أي حق على الإطلاق ، التحليل الذي يرى أن رؤية الحق وتصوره أمر يختلف باختلاف مصادر الرؤية ، وتعدد المواقع ، بل والظرف السيكيولوجي الخاص ، التحليل الذي يرى أن القضية - على افتراض الحسم في مسائل الحقوق - ليست مجرد مسائل حقوق يتم زرعها في فراغ ، بل هي قضية متعددة الأبعاد ، ليس الحق المجرد وحده هو ما يفصل فيها ، على افتراض (وهو افتراض مستحيل!) أن الحق فيها موضع اتفاق. إذن ، الإنسان العربي المولود (ولادة ثقافية) حديثاً ، لم يعد ذلك الإنسان الدوغمائي الحاد الذي يمارس تصعيد أفكاره ورؤاه (أو أفكار مجتمعه ورؤاه وقيمه العليا وشعاراته ...إلخ) إلى درجة المقدس الذي لا يقبل المساس . فيما مضى كانت مصافحة مسؤول إسرائيلي مثلا ، تضع صاحبها في دائرة الخيانة العظمى التي لا مجال فيها للفهم ، فكيف بالغفران ؟! كان المثقفون بسبب موقف كهذا ؛ يهيجون أشد ما يكون الهياج كما الجماهير الغوغائية ، يرفضون بشكل قاطع ، يرفضون الخطوة وصاحبها ، يُقاطعون ، يشتمون ، ويبكون!. كان العقل آنذاك جامدا ، على مسائل جامدة ، بشعارات جامدة لا تقبل النقاش ؛ لأن العقل لم يعتد على النقاش / الحوار ، الذي هو من ضرورات التفكير. اليوم ليس كالأمس ، اليوم ، يتم وضع مثل هذه المصافحة تحت ضربات الأسئلة التحليلية التى تتناسل إلى ما لا نهاية من التساؤل الاستكشافي ب : مَن ؟ ومتى ؟ وكيف ؟ ولماذا ؟ ...إلخ تلك الأسئلة التي تُذيب الجامد اليقيني القطعي في بحر متلاطم من النسبيات التي لابد - لأي نهاية - أن تُخرج العقل من رقدة المَوات. قبل عشرين سنة ، وتحديداً إبان أزمة الخليج ، كان تدخّل القوات الدولية لصد العدوان - وخاصة في نظر الغوغائية العربية السائدة آنذاك - يُعد خيانة عظمى ، وجناية كبرى على الأوطان . لم يكن العقل العربي يطرح تلك الأسئلة التحليلية على الواقعة السياسية ؛ لأنه كان عقلا أحاديا ، بل عقلا كسيحا محبوسا في تراث الناصرية العمياء . الآن انفتح هذا العقل نسبيا على الواقع بكل مُكوّناته ، أصبح مثل هذا التدخل واجباً كما هو ضرورة ، بل أصبح أولئك الذين وقفوا ضده قبل عشرين سنة هم أول من ينادي به الآن . لم يعد أحد يحفل بالشعارات الجوفاء ؛ لأن العقل العربي بدأ يتعقلن ، بدأ يخرج من نفقه الدوغمائي الذي حبس فيه نفسه ، بدأ يتعاطى مع قضاياه الكبرى ويقينياته العليا (ومنها مفهوم السيادة الوطنية المرتبط ضرورة بمفهوم الاستقلال) بمنطق النسبيات. لا شك أن العولمة فعلت فعلها في العقل كما في الواقع . امتزج العالم في الوعي إلى درجة التماهي في وطن كوني واحد ، وطن القيم الإنسانية المشتركة العابرة للجغرافيا . لم يعد مفهوم (الوطن) كما كان ، كما لم يعد مفهوم (الاستقلال) كما كان. اليوم أصبحت مأساة حماة وحمص وإدلب ودرعا ، حيث يتم سحق الإنسان ، هي مأساة مدريد وباريس والرباط وطوكيو ونيويورك والرياض وأنقرة وروما . ما يطلبه أهل حماة من جيرانهم : أهل حمص ؛ يطلبونه أيضا ، وبلا أية حساسية من أي نوع ، من ساكني لندن وواشنطن وبرلين ؛ بلا تفريق ، بل إنهم يُوجبون على القادر البعيد (= الغرب) التدخل الإيجابي المباشر المتمثل بقوة السلاح ما لا يُوجبونه على العاجز القريب (= العرب). اليوم بدأ المثقف العربي (والذي هو جماهيري بطبعه) يُراجع حساباته بعد أن أضاف إليها الإنسان كقيمة كبرى ؛ من شأنها أن تقلب كل معادلات الكرامة وكل تصورات الانتماء . من المبهج اليوم لكل مهموم بالإنسان ، أنك أصبحت تسمع على الساحة الثقافية من يتساءل ؛ مُسائلًا ثقافته ، وواقعه ، بل ونفسه : كيف أتعاطى - ثقافيا وواقعيا - مع نظام حكم قومي دكتاتوري يقتل شعبه بالجملة ، نظام حكم له سمعته العالمية في قسوة القمع وفي مهارة التفنن في التعذيب ، نظام حكم لا يُمارس ما يُمارسه اليوم استثناء ، وإنما اقتفاء لمنهج دائم وشامل ، إذ هو النظام نفسه الذي قد اقتحم قبل تسع وعشرين سنة مدينة حماة ، فقتل في ست ساعات ما لم تقتل إسرائيل مثله في ستين عاماً من الاحتلال.. بدأت رحلة فرز الأعداء . الأعداء بدأوا يُصنفون باستحضار الإنسان كقيمة ، ولم يعد ما يفعله القريب مبرراً ومغفوراً لمجرد أنه صادر عن قريب . بعد أن حضر الإنسان كقيمة في قائمة الحسابات ، بدأ الإنسان العربي يرى الأمور بوضوح شديد ، اتضح له من هم الأعداء الذين سحقوه ، اتضحت له درجات العداء وطبيعة العداء. اليوم ، أصبح الإنسان العربي عامة ، والفلسطيني خاصة ، يرى - عبر أكثر من وسيلة إعلامية ، وبشكل متكرر - كيف يعيش الإنسان الفلسطيني داخل حدود إسرائيل ، وكيف يعيش داخل نطاق الحكم الذاتي ، وكيف يعيش داخل دول الممانعة التي ترفع له أجمل الشعارات ؛ بينما لا توفر له أدنى مقومات الحياة . ثلاثة ظروف معيشية متباينة ، متباينة إلى درجة تستحضر المقارنة حتما ، خاصة عندما ترصد وسائل الاتصال الحديثة تفاصيل التفاصيل التي يستحيل فيها الكذب والتزوير ، ترصدها بصورة متكررة على مدار اليوم ؛ فيبدو الإنسان العربي وكأنه يعيشها حقيقة على أرض الواقع كما حال الفلسطينيين . لهذا لم يستطع المثقف العربي ، حتى لو أراد ، أن يُدلّس ، لم يستطع أن يطمس وجه الحقيقة الناصعة التي تُدين أنظمة القمع العربية التي طالما كانت تُدعى ب: أنظمة الصمود !. باختصار ، تغير كل شيء ، بعد أن دخل الإنسان - كقيمة - إلى قائمة الحساب ، بفضل ما فعلته العولمة بقوة هذا الانفتاح القسري الكبير ، الانفتاح الذي مكّن قيم التنوير من أن تأخذ طريقها إلى وعي الجماهير..