التغير من سنن الحياة، والإنسان هو من يسعى إلى إحداث التغيير وصولاً إلى حياة أفضل، وترجمة لفكر مستنير، واستجابة لمتطلبات الحياة وظروفها المتقلبة سواء ما يتصل بالإنسان نفسه من قوة وضعف ومقاومة، أو ما يتصل بمقومات الحياة العامة. والإنسان يتغنى بأمجاده القديمة غير رابط بين مجريات الحياة عبر مسيرة زمنية تخللها اتساع في الاتصال والتواصل، وترابط في المصالح، وحاجة الأمم بعضها إلى بعض مما يحدث شيئاً من النقمة وينعش ذكريات لو عادت لمللنا من رتابتها وتطلعنا لاستبدالها. والمتغيرات في بلادنا كثيرة وسريعة الحدوث نتيجة ما وصلنا إليه من ثقافة وما وهبنا من خيرات، وما زلنا نتغنى بماض حالمين بصور أبدعها الشعراء، وبقيم لا شك أنها خاضعة لقوانين التجديد والتبديل التي هي دائبة الحدوث. أقول قولي هذا وقد تلقيت أبياتا لشاعر غاب عن دياره «الفقرة» سبعة أعوام فشده الحنين إليها متذرعاً بطارئ خطر بباله وهو مال الجد، ومال الجد هذا لا يتجاوز نخيلات معدودة ومساحات للزراعة البعلية ضئيلة، وبعض خلايا النحل، وكل هذا المال مرتبط عطاؤه بالمطر، ولئن كان يمثل ثروة كبيرة في زمن الأجداد إلا أنه اليوم لا يمثل غير رمز أثير إلى النفس ومعنى من معاني الوطنية. والفقرة لمن لم يعرفها مسطحات تعلو سلسلة جبال السروات فيما بين المدينةالمنورة وينبع وتسكنها قبيلة الأحامدة من حرب حصراً وإلى جوارها مسطحات أخرى مثل الفقارة وفرع الردادة من حرب. وكانت هذه المناطق عسرة المراقي لوعورتها وسامق ارتفاعها، فلا يؤمها غير أهلها لأغراض الزراعة والمصيف، وأكثر فصول العام تمنع شدة البرودة استيطانها، وهي مناطق تحميها من الرعي قوانين واتفاقات قبلية تنظم العلاقات بين أهلها وغيرهم وسبل الاستفادة من خيراتها. والشاعر واحد من كثير ممن جذبتهم حياة المدينة وعاش بعيداً عن دياره منعماً بحياة المدينة وروافدها، وتوفرت له ظروف العودة إلى دياره، وشده الحنين إليها، ولكن هذا الهاجس لم يكن ليخطر على باله لو كانت «الفقرة» على عهد الأجداد بها حصينة بعيدة عن متناول الجيل الجديد لطبيعتها الجعرافية. اليوم بعد أن امتدت إليها يد العمران واخترقتها طرق الاسلفت أصبح من اليسير أن يطمح إلى امتطاء وعرها، والاسترخاء على مسطحاتها، وتأمل حياة الاجداد وكيف كانت هذه الحيازات الصغيرة ثروة تقوم عليها حياة الاسر التي لا مورد آخر لها ما عدا غنيمات تتهددها سباع الجبال الشاهقة. يقول الشاعر: يا ديرتي من دونها سبعة اعوام واليوم مال الجد طاري عليّه منازل اهلينا ومن عقب جدان في حزم نايف في الديار العذيّة يا رب جيب الغيث من غُرّ الامزان واقعد سَعَدْها بعد حالة رديّة اليوم معها الخط طُرْقة وميدان وراحت مقاصر للجدى والروية راحت منازل بين حضرٍ وبدوان بنيت عماير فوق وَسْق الرهيّة واللي بنى له بيت ما عينه تنام مهموم ما نيّر مذاهب خويّه من بعد ما هي للمجلَّيْن مزبان قَفَّوا وخلوها منازل خليّة ربما لم تصلني الأبيات كاملة ليستقيم بناء القصيدة وفق عناصرها السردية، ومراميها التي ينم عنها معنى الشاعر الذي يمتدح ارتفاعها ونقاءها ثم يدعو الله أن يسعدها بالمطر، ثم يذم ما أصبحت عليه بعد ان امتد إليها العمران وسفلتة الطريق إليها وإلى نواحيها. وهو ما يذهب إليه المتعاطفون مع صمود الفقرة زمنا طويلاً لا يبلغ مسطحاتها غير أهلها، وليس كل أهلها وإنما حصراً من رهن نفسه لخدمتها وحرص على مواصلة همم الاجداد الذين يعتبرون المحافظة على سننهم واجباً يجلب التخلي عنه العار إلى من يرث هذه التركة التي كانت تمثل ثروة كبيرة ثم أصبحت رمزاً لا يقدر بثمن، وكانت الفقرة حصنا صعب المنال لمن لم يتعوّد صعود الجبال، وظلت بكراً حتى فض خط الاسفلت بكارتها، ويسر لمن لا يقوى على بلوغها سبل التمتع بجوها الجميل ومشاهدها الرائعة، وأفصح عن درجات القناعة والنضال الذي عاش الأوائل من أجل حياة كريمة، والفقرة منطقة من مناطق كثيرة تعلو جبال السروات على مدى امتدادها تتمتع بالطبيعة نفسها والحصانة عينها، وتتفاوت من حيث عطاء الامطار. ويرجع غضب الشاعر إلى اختلاط الأجناس واختلاف العادات، وتمزق قوانين الحماية التي فرضها الأوائل عن رضا وخضوع لطبيعة الحياة الفطرية في الفقرة التي لا تجد متراً من أراضيها غير مملوك، ملك لا تحكمه أوراق مكتوبة وإنما تعتمده أعراف تحترم الحقوق. ثم يشير في آخر الأبيات إلى فضيلة الحماية التي تعتز بها القبائل حين لا يجد أبناؤها نصيراً منها فيجدون في الفقرة الحماية التي تعطيهم الفرصة لتجاوز أخطائهم وإيجاد الحلول لها بمساعدة من ألزمتهم القوانين القبلية المساهمة في حفظ دم الإنسان ورد الحقوق إلى أصحابها عن رضا وهم شاكرون، وفي البيت نفسه يشير الشاعر إلى ظاهرة بياد الحضارات وزوالها حينما يذهب الذين بعزيمتهم وقوتهم بنو الحضارة ثم جاء من بعدهم من كانوا يتكلون على الاقوياء فلم يقووا على اقتفاء آثارهم فتركوا المكان وتفرقوا أشتاتا في مناكب الأرض يتبعون مصادر أرزاق زمنهم. نعم لو استمرت الفقرة وأمثالها على حصانتها المعهودة لما وجد إلى عمارتها سبيلاً، وتبدل الأحوال من سنن الحياة، فكم من المكاسب التي تحققت من امتداد العمران ليس للفقرة ذاتها وإنما لمن يسرت له مقاصر الطرق بلوغ بلاد أخرى، فالطريق من المدينة إلى ينبع عبر الفقرة ربما اختصر المسافة ما يقارب المائة ميل إضافة إلى متعة الطبيعة، وجلب إلى الفقرة الماء والكهرباء والاستجابة لتحولات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولقد توقعت في يوم الاحتفال ببلوغ الاسفلت قمة الفقرة مستقبلا حافلا للفقرة فقلت من قصيدة طويلة: هذه الفقرة تزهو فرحاً عيدها اليوم بكم عيد سعيد هي للزرع رياض خصبة تنبت الطيب من حب الحصيد وبها النخل عطاء دائب باسقات ولها طلع طلع نضيد وكذا النحل جنود تغتدي تجلب الشهد شفاء للعميد وهي في الصيف رؤوم صدرها يُتَّقَى في جنبه الحر الشديد وهي في يوم غد إشراقة تبهر الألباب في أزهى البرود وكأن الصيف في أرجائها موسم ضج بأفواج الوفود * * * طال صبر الطود في ذا المنتحى يرقب الآتي ويغريه الصدود غازلته المدن ترجو وصله بثت الاشواق في كل بريد خاطبت إطراقه في رقة فتوارى في معلاه الفريد أرسلت خطابها يا للهوى وهو في إطراقه ماض عنيد حاولت ترقى إلى أعتابه وتداعت حين أعياها الصعود ثم أقبلتم تحثون الخطا تصلون المدن بالريف الودود فأتته المدن في زينتها حرة تهفو إلى حر رشيد واستثارت فيه أشجان الجوى فاستوى يرنو إلى عطر الورود واستبد الوجد في أعماقه ليس يقوى اليوم ذياك الصمود وصبا الطود إلى براقها واستحث الجهد في القلب العتيد إلى آخر الأبيات التي القيت بحضور صاحب السمو الملكي الأمير عبدالمجيد أمير المدينةالمنورة وراعي الحفل، والقصيدة من ديوان: أيها الشاعر إني اعتذر.