يتوالى صدور القرارات والأوامر الكريمة التي ترمي إلى تخفيف مؤونة العيش على أبناء هذا الوطن والقاطنين فيه، وهي قرارات نافعة من دون شك ومؤثرة في حياة كل إنسان يقيم في هذا الوطن إما عاجلاً، مثل خفض أسعار الوقود أو دعم الأعلاف وما يتبعه من انخفاض أسعار الغذاء وغيرها من القرارات، وإما آجلاً مثل مشاريع الاسكان ودعم البنية التحتية من تعليم وصحة ومرافق وبرامج دعم اجتماعية وغيرها. هدفت كثير من هذه القرارات إلى محاربة الغلاء وزيادة رفاهية المواطن ولكن كلفت الخزينة العامة كثيراً جداً مع أنها تعالج الأعراض فقط من دون التدخل لمعالجة السبب والاكتفاء بوضع الكمادات الباردة على جبين الرأس لجسد محموم. إن سبب جميع مشاكلنا من ارتفاع الأسعار وغيرها هو تأكل قيمة عملتنا المستمر منذ نصف قرن تقريباً، ولقد زادت وتيرة هذا التآكل في العقد الأخير من الزمن بشكل لم يسبق له نظير إلاّ في حالات الحروب العالمية والأزمات الاقليمية. إن ربط سعر صرف الريال السعودي بالدولار الأمريكي جعل قيمة الريال السعودي تترنح مع ضعف الدولار الأمريكي الذي بدأ يتهاوى إلى درجة أنه قد يصبح شبيهاً للدراخما اليونانية القديمة أو الليرة اللبنانية إذا شئنا المبالغة. ولأضرب مثالاً على ذلك، فبعد إصدار العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) بزمن قصير وصلت قيمة اليورو آنذاك ما يقارب 80 سنتاً أمريكياً (أي ما يعادل 3 ريالات تقريباً) ثم بدء اليورو رحلة الصعود حتى وصل في زمن ما يقارب خمس سنوات إلى دولار وستين سنتاً (أي ما يعادل 6 ريالات سعودية) وهو حالياً يراوح على مستويات دولاراً وخمسة وأربعين سنتاً (ما يقارب 5،44 ريال سعودي) وهو مرشح للصعود إلى أعلى من مستوياته القياسية مرة أخرى من جديد وإلى مدى لا يعلمه إلاّ الله. أو بعبارة أخرى هو انحدار لقيمة الدولار إلى مستويات متدنية قياسية جديدة لأن الصعود ليس لليورو فقط وإنما للين الياباني (وصل إلى 76 يناً مقابل الدولار بينما كان قبل سنوات قليلة يتجاوز 125 يناً) والعملات الأخرى مثل الفرنك السويسري والدولار الاسترالي والكندي والجنيه الاسترليني وقائمة طويلة من العملات العالمية الحرة الأخرى. لقد قارب الدولار في تدهور قيمته (قوته الشرائية) ما يعادل 50٪ (خمسين بالمائة) تقريباً في سنوات قليلة وكذلك الريال السعودي الذي ارتبط به في سعر صرف زمناً يزيد عن ضعف زمن السجن المؤيد. إن عدم رفع قيمة الريال السعودي في سنوات بعيدة خلت بل وحتى تخفيض قيمته عدداً من المرات كان له ما يبرره آنذاك من وجود عجز في موازنة الدولة ووصول مستويات الدين العام إلى مستويات مقلقة، لكن ما حدث في السنوات القليلة الماضية هو العكس تماماً بانحسار الدين العام كثيراً وظهور فوائض مالية غير مسبوقة في الايرادات العامة، الأمر الذي يتأتي معه رفع سعر صرف الريال أمام الدولار بصورة تدريجية في مدد زمنية غير متباعدة لكبح جماح التضخم وعودة الأسعار إلى الانخفاض التدريجي أو الاستقرار على أقل تقدير على المدى المتوسط أو القصير. إن سعر صرف الريال السعودي مقابل الدولار كان يجب ان يكون حالياً ما يعادل ريالين للدولار الأمريكي وثلاثة ريالات لليورو حتى نعود لنفس مستويات الأسعار عام 2002م. من المسلم به أنه لا يمكن تعديل الصرف بهذا القدر في خطوة واحدة ولكن لابد من البدء في رحلة تعديل سعر صرف الريال التي تخلفنا عنها مدة زمنية طويلة جداً قاربت النصف قرن من الزمن، واضحينا لا نعلم كم تبقى علينا من الزمن حتى نقدم على هذه الخطوة (ربما قرن من الزمن)!! سبق وان طالب البعض بفك الارتباط في أسعار الصرف بين الدولار الأمريكي والريال السعودي ولا شك ان هذا المطلب جميل جداً ولكن يصعب تحقيقه لأن مثل ذلك يصعب عملية حساب الواردات وتسعير الصادرات وغيرها من الأمور التي يصعب سردها هنا لكثرة حساباتها. ولكن لنبقى مع الدولار الأمريكي حتى لو أمسى بسعر الروبية الأندونيسية طالما أننا نتحكم بسعر الصرف ونرفع من سعر صرف الريال أمام الدولار كلما اندحر الأخير في سعر صرفه أماما لعملات الأخرى. وفي المقابل حتى لو صعدت قيمة الدولار إلى مستويات رفيعة أمام العملات الأخرى (كأن مثلاً يتجاوز سعر صرفه سعر صرف اليورو والجنيه الاسترليني) فلا مانع من تخفيض سعر صرف الريال حينذاك. إن استمرار المعاناة واستمرار استعمال المراهم والكمادات والحبوب المهدئة للصداع سيكلف الاقتصاد أكثر بكثير من التضحيات التي سنقدمها في سبيل رفع سعر صرف الريال السعودي، وبهذه الوسيلة السهلة والبسيطة سنعالج مشاكل ومعاناة للملايين من أبناء هذا الشعب العزيز والمقيمين فيه، وسيعود بالرخاء والرفاهية المنشودة، وسأحاول في وقت لاحق إن شاء الله ايضاح بعض الجوانب الايجابية العظيمة الأخرى لهذا الرأي.