تسير بمركبتك في طريق واسع لشراء بعض الاحتياجات الرمضانية بعد صلاة العصر، وفجأة تجد أن المركبات الأخرى تتوقف الواحدة تلو الأخرى محدثة ازدحاماً شديداً يزيده إزعاجاً أصوات الأبواق المتصاعدة هنا وهناك حتى تجبر السيارات على الوقوف في زحام وضوضاء تلك الإزعاجات الكبيرة، مما يجعل الكثيرين يترجلون من مركباتهم بوجوه واجمة، وألسنة ساخطة لتسأل أحدهم ما الذي يعطل السير؟، فيجيب هناك مشاجرة بين مواطنين انتهت بإصابة احدهما بجروح بالغة استدعت طلب الإسعاف، وقصص أخرى شبيهة لذلك المشهد الذي قد يتكرر في أماكن ثانية وبطل تلك الدائرة من النزاعات "الشخصية الغاضبة" التي تنفجر انفعالاً لأتفه الأسباب، خاصة أثناء قرب موعد الإفطار فمن هو الغضوب ذاك الذي يحدث الخلافات الدائمة في نهار رمضان؟، وما أسباب غضبه وارتباط ذلك بالصيام؟، وكيف هي معاناة أسرهم والمجتمع المحيط بهم؟، وماهو التشخيص النفسي لهؤلاء المتصفين بالتوتر والغضب والمتسببين بمشاجرات لا تليق بهذا الشهر قبل موعد الإفطار؟. الخباز عثمان يروي للزميل الحسيني أحوال «العصبيين» مواقف متعددة! ويصف الخباز "عثمان الهندي" المعاناة الكبيرة مع "أصحاب الأمزجة الصعبة"، وقال:"يأتي إلينا الكثير من المتصفين بالمزاج الصعب، ويحدث الكثير من الشجار معهم، حيث يرفع صوته مطالباً بسرعة بيعه للخبز، رغم الزحام الشديد الذي يحدث قبل موعد الإفطار على شراء الخبر، فلا يهدأ حتى إن حاول البقية من الحاضرين تهدئته، مبيناً أنه يتعرض أحياناً للسباب من بعضهم، مطالباً بسرعة إخراج الخبز من الفرن، مبدياً استياءه من مثل هذه التصرفات التي لا تقدر تعبه وتحمله لشدة حرارة نار الفرن في هذا الصيف الملتهب وهو صائم. أما "حسن اليمني" -عامل حلوى وسنبوسك- فيرى أن زبائن اللحظات الحرجة عند اقتراب المغرب هم أكثر الناس انفعالاً لأنهم يريدون كسب الوقت فيقومون برفع أصواتهم على من يقابلون بل ويمدون أيديهم أحيانا على من يتجاهلهم، مشيراً إلى الكثير من المشاهد التي يراها وذلك لأن محله يقع على رأس الشارع العام وهي مشاهد غير لائقة بهذا الشهر الكريم. في حين يروى "عبد القيوم" -عامل التموينات الآسيوي- حكاية الشاب العصبي الذي رمى بقارورة التوت على الأرض لأنه فقط قال إن الحساب ناقص، وغادر دون أن يدفع حساب ما كسر. ويعترف "أبو مازن" الرجل الخمسيني أن العصبية سمة من سمات شخصيته؛ نظراً لإصابته بمرض السكري، مشيراً إلى أن أكثر المتضررين من انفعاله هم أفراد أسرته التي تتلمس له العذر؛ نتيجة مرضه، مؤكداً على أنه يبادر بالاعتذار لهم حينما تهدأ أعصابه. وعلى النقيض من "أبي مازن" يرى الشاب "سامي الفهمي" بأن برود بعض الناس يستفزه فينفعل لا إرادياً، لكنه ينسحب على الفور حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه. غير أن "علي العمري" يعتقد أن ردة فعل الطرف الآخر هو الفيصل في زيادة انفعاله أو التقليل من ذلك الانفعال؛ فهو يؤكد أن من يحاول تهدئته بالكلمة الحسنة فإنه يهدأ وينصرف، بينما من يتفاعل مع غضبه فهو بالتأكيد يكون الخسران معلقا بقوله: لأني اشتهرت بأبي المشاكل!. التحليل النفسي ويشير "د.صبحي الحارثي" -استشاري نفسي وأسري- إلى التحليل النفسي لأصحاب الأمزجة الصعبة، حيث يقول: في تقديري أن الصيام في شهر رمضان المبارك أو غيره رمضان له فوائد نفسية إيجابية في السيطرة على الغرائز؛ مما يساعد الصائم أن يمتنع أو يقلع عن أي سلوكيات كان قد تعود عليها قبل الشهر، بل يسهم الصيام في ترشيد الانفعال وضبطه وتحسينه إلى الأفضل وربما الإقلاع عنه. وحول من يبرر عصبيته النفسية بأنه صائم ولا يتحمل انه اخطأ في حق نفسه ودينه، فيرى "د.الحارثي" أنه ليس هناك رأي علمي ونفسي يربط بين الصيام والانفعال رافضاً تبرير الأفعال الخاطئة بالصيام، مشيراً إلى أن الانفعالات والعصبية صفة بشرية تتصل بردة فعل مبالغة تجاه بعض المواقف، وتظهر معالم العصبية على معظم الناس بصورة متكررة مع تعدد الأحداث اليومية، موضحاً أهم الأسباب من الناحية الفسيولوجية؛ لذلك تشير البحوث العلمية إلى أن أغلب الانفعالات العصبية ناتجة عن اضطراب النوم واليقظة؛ مما يؤدي إلى اضطراب التكيف والقلق النفسي ومن ثم التأثير على المستوى السلوكي مما قد يؤدي إلى إيذاء النفس أو إيذاء الآخرين، من خلال أنواع العنف المختلفة والغضب والاستسلام السلبي. وأضاف:أن المسؤول عن ذلك هو المنظم (السركادي) بداخل المخ، حيث يتحكم في توقيت وإيقاع خاص عن وظائف الجسم النفسية والحيوية، مضيفاً أنه من المناسب في هذا الشهر المبارك الذي يعتبر بحق مدرسة نتعلم ونتدرب فيها على كيفية مواجهة الضغوط النفسية مع نفسك ومع الآخرين أن يدربوا أنفسهم على محاولة التحكم في تصرفاتهم وعدم السماح لسلوك الغضب والعصبية بإفساد صيامهم، مشيراً إلى أن الضبط الذاتي الذي يلتزم به الصائم بيولوجيا ونفسياً وسلوكياً يبدأ من الامتناع عن الأكل والشرب والجماع، وينتهي بكف الأذى وغض البصر؛ مما يمنحه تدريباً عالياً وقدرة جيدة على التحكم في المدخلان والمثيرات العصبية مع القدرة على خفض المؤثرات الحسية ومنعها من إثارة مراكز الانفعال لديه بدرجة ترتبط بخفض الإثارة في نشاط التكوين الشبكي في المخ وهذه الحالة هي درجة من الحرمان الحسي deprivation Sensory. وأشار إلى أن تقليل المؤثرات الحسية له تأثيرات إيجابية على النشاط الذهني والقدرة على التفكير المترابط العميق والتأمل والإيحاء، موضحاً أن الضبط الذاتي اتبع في أغلب الأديان وبواسطة الأنبياء والحكماء والمفكرين، وأنه يمنح الإنسان قدرات عالية على الصفاء والحكمة والتوازن النفسي، موضحاً أن على الأسرة دور كبير في مواجه هذه الانفعالات العصبية، حيث يتم تدريب الأبناء أن يكونوا أكثر التزاماً من النواحي الأخلاقية والدينية خلال رمضان باستثمار هذا الشهر لإعادة التوازن النفسي والروحاني للفرد، من خلال الجو الروحاني الذي يتسم به شهر رمضان استناداً إلى قواعد علمية سليمة.