رمضان شهر انتصارات عديدة ، يختصرها بعض الناس في انتصارات المعارك: بدر والفتح وغير ذلك. وهذا جزء من الحقيقة ، فالحقيقة الكاملة أن رمضان انتصار من جميع الجهات وأولها وأبرزها انتصار العلم على الجهل. كان في رمضان منعطف فكري كبير , أحدث للعرب نقلة علمية بوأتهم مقاما مرموقا بين الأمم , وأصبح الكل يفخر بالدنو منهم والانتساب إليهم , وصار العربي الذي كان سُبَّةً قدوة يُصدَّر في المجالس , ويُشار إليه بالبنان . فرفعت (اقرأ) أقواما ، ووضعت آخرين . رمضان انتصار على النفس الجاهلة الخاملة التي تركن إلى الدعة والكسل , لتنشط وتسابق إلى الخير بخفة وحيوية ، ولترقى نحو مستقرها الأول , ولا ترقَّى بشيء مثل العلم , وتوعية العقل وتفعيله . ب (اقرأ) ينتصر الحق على الباطل بمحو آثاره وطمس معالمه , وقطع السبل الموصلة إليه . ف (اقرأ) ليتلاشى الباطل ويضمحل , وتنهار دولته . و (اقرأ) ليتجلى الحق ويظهر حين ينفض العلم عنه الغبار ليجليه في صورته الحلوة الجذابة , ويظهر الوجه الحقيقي القبيح للباطل الذي قد يتزين فيخدع الناس برهة من الزمن , لكنه سرعان ما يذوب أمام العلم , وتنكشف حقيقته , ويلفظه الخلق . فينبغي لمن أدرك رمضان أن يستشعر هذه الكلمة (اقرأ) فيقرأ حياته ليبصر مكامن الخلل فيها ومواقع الخير فيقلل من ذاك ويكثر من هذا . ويقرأ التاريخ فينظر كيف كان عاقبة الذين ظلموا، وكيف فعل الله بالمعاندين، كأن لم يغنوا فيها . ويقرأ السنن الإلهية التي لا تتبدل ، ولا تتحول ، ليعلم أن العاقبة للمتقين ، وأن الأيام دول ، وأن الباطل مهما انتفش فإن وخزة من الحق تدمغه ، كما تكسر ومضة الشمع ظلاما حالكا . (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه) ، (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) . ويقرأ في تلك السنن أن التضحيات لا تضيع هدرا ، وأن النصر لا محالة آت , ويعلم أن النصر ثمرة مجهود جماعي , لا يمكن أن ينفرد به شخص أو فئة , وأن من يقطف ثمرته ممنون لمن وضع البذرة الأولى. فعليك بذر الحب لا قطف الجنى والله للساعين خير معينِ ويقرأ كتاب الكون ليعرف قدرة خالقه ومدبره ، وأن الذي حبك هذا النظام كأدق ما يكون لا يمكن أن يترك الأمور هملا ، ولا أن يترك الإنسان سدى . فسطور الكون مكتوب فيها أنها خلقت بالحق والعدل ودقة الحساب ، فلا بد من صانع حكيم عليم قدير حي قيوم ، يدبر الأمر يفصل الآيات ، قدر كل شيء تقديرا . فإن نظرت في السموات العُلا ومالها من الشِيات والحُلى وسقفها المرفوع من غير عمدْ والنيراتِ المشعراتِ بالأمدْ وما حوته الأرض والبحارُ أبصرت ما فيه النهى تحارُ كلا لقد أفصحت الأكوانُ عن فعل رب ما له أعوانُ وكل أنواع القراءة هذه لا تحتاج إلى أن تكون عالما بالقراءة والكتابة ! فالذي جاء بهذا النصر العظيم الجوانب كان أميا!!!! نعم كان أمياً , ولكنَّ أول ما قرع سمعه من الوحي (اقرأ) , وأنت تلاحظ أنه لم يقل : تعلم القراءة مثلا وإنما أمره بها كالعالم بالقراءة , في إشارة إلى هذا المعنى . إذ إن العلم ليس أن تقرأ الحروف وتكتبها وتحفظها, وإنما العلم هو فهم الحياة واستغلال كل ما فيها لراحتك وسعادتك في العاجل والآجل. إننا نقضى أعمارا نتدارس كلمات تفوه بها عربي في أصقاع الجزيرة , لا يدري ما السين والشين. كما قيل لأعرابي مرة : أتهمز إسرائيل ؟ فقال : إني إذن لرجل سوء. وقيل لآخر : أتجر فلسطين ؟ فقال : إني إذن لقوي . ومع ذلك كانوا يتمتعون بفقه عميق للحياة , وأسرار الكون , حتى غدو أساتذة لحملة الماجستير والدكتوراة . قال المتنبي : أنام ملء عيوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصمُ العلم هو الاستفادة من دروس الماضي وصوابه وخطئه لنسير بخطى واثقة نحو مستقبل واعد , مليء بالنجاحات والإنجازات . ويقرأ الكتاب الذي جاء ب (اقرأ) ليحقق النصر في داخله على الشهوات ، والضعف ، واليأس ، والحقد ، والحسد ، ويحقق النصر على جوارحه فيخضعها لاتباع الشرع صلاة وصياما ، وفعلا وتركا. ويحقق النصر على لسانه فيعف عن ذكر الناس بغيبة ، أو نميمة ، أو سب ، أو شتم ، وينتصر على كل خلق سيء جاءت (اقرأ) لتهدمه ، وتبني صرحا من مكارم الأخلاق عوضا عنه . هذا هو الذي اختصرته كلمة (اقرأ) كما أقرؤها في ذهني ، واختصره قول حبيبي وقرة عيني صلى الله عليه وآله وسلم (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) فهذا مهزوم لم يحقق إلا نصرا صوريا. إن رمضان مرتبط بالقرآن ، وهو سر النصر وسر التغيير في حياتهم قديما وحديثا ، لهذا تنقلب حياتهم في رمضان وفي لحظات يتغيرون ، ولمنهج حياتهم يغيرون ، ليصبحوا أشد صبرا، وأكثر ذكرا، وأرق قلوبا، وأقرب دموعا. وليس سر ذلك شرف الزمان فحسب ، بل سره في نزول (اقرأ) ، (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) ، فالذي يتغير في رمضان هو قوة العلاقة مع القرآن ، فتنتصر النفس على كل جاذب للوراء ، وتقوى شكيمتها للسير والانطلاق نحو المعالي، وفي الصحيح: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان ، حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن : فإذا لقيه جبريل عليه السلام، كان أجود بالخير من الريح المرسلة. هذا هو سر (اقرأ) بل أقول من أسرار (اقرأ) فليتنا نقرأ، ونقرأ، حتى تنفتح عقولنا للعلوم ، ولتنوعها ، واختلافها ، فإن في تلك الآيات الخمس الأولى التي حملت شعلة الانطلاق للنصر والتغيير (علم الإنسان ما لم يعلم) ، فالعلم مرتبط بالقراءة . ومن أهم سمات العلم الزيادة ، فلا يبقى المرء على معلومته السابقة ، ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (وقل رب زدني علما) . فخذ من (اقرأ) درسا ، بل دروسا تخلصك من رواسب فكرك القديم، لتعيد حساباتك ، لا في الثابت كثبوت السماء والأرض ، ولكن فيما يتغير بالأحوال والفصول ، (وترى الأرض هامدة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) . ولا ماء يهز العقول مثل ماء الوحي، حينها فقط تنبت من كل زوج بهيج ، ثقافة وحضارة وعلما وتقدما. وما أحسن قول الراجز : والشمس تأتي من بلاد الشرقِ ونورها يملأ كل أفْقِ علما ودينا أدبا وفضلا سياسة حكيمة وعدلا وقد رأيت الفتح كيف كانا وكيف أصلحنا به الأسبانا