الجهل والأمية كانت القاعدة (لا الاستثناء) في تاريخ البشرية. وحين اخترع الألماني جوتنبرغ الطباعة عام 1450 حدثت طفرة في وفرة المادة المطبوعة ونزل الكتاب من برجه العالي لمستوى العامة والفقراء.. ورغم ظهور منافسين أقوياء للكتاب من بداية القرن العشرين(كالراديووالسينما والتلفزيون) إلا أنه ظل محتفظاً بقوته ومكانته حتى ظهرت سيدة الجميع في بداية الثمانينيات.. (الإنترنت)!! واليوم لم تعد المشكلة في الجهل والأمية - او في عدم توفر المادة العلمية - بل في التدفق الهائل وغير المسبوق للمعارف الحديثة. فالانسان - مهما بلغت به الثقافة والحرص - لا يستطيع خلال حياته قراءة أكثر من ثلاثة آلاف كتاب. وكي يحقق هذا الهدف عليه أن يقرأ ما لا يقل عن خمسين صفحة كل يوم - أو خمسين كتاباً في العام - .. وحتى إن نجح في ذلك يكون قد اضيف الى المكتبة العالمية (خلال حياته) ما لا يقل عن عشرة ملايين كتاب جديد!! ومن الناحية الذهنية والبيولوجية، لا توجد مشكلة على الاطلاق، فمخ الانسان قادر على استيعاب عشرة ملايين ملايين ملايين وحدة معلومات (تسمى بت).. بمعنى آخر يمكن لمخ الانسان استيعاب الموسوعة البريطانية بأكملها دون أن يشغل سوى جزء يسير من قدراته التخزينية. ولكن من جهة اخرى لا يستوعب المخ المعلومات إلا بنمط بطيء للغاية (بمعدل كلمة واحدة في الثانية). وهذا يعني ان الانسان الذي يقرأ عشر ساعات في اليوم طوال سبعين عاماً لا يستوعب من الرقم السابق سوى 30 الف مليون وحدة فقط - هذا اذا افترضنا اصلاً قدرته على الاستمرار! أضف لموضوع الكتب وجود أكثر من (10,000) مجلة علمية تضاف سنوياً الى رصيد الدوريات والإصدارات التي تخاطب المتخصصين فقط. ومعظم هذه الدوريات تقفل أبوابها قبل نهاية السنة الأولى بسبب عجز المتخصصين عن متابعة جميع الأخبار. وفي دراسة أجرتها مكتبة ألين الطبية في كليفلاند بأوهايو تبين انه من بين 3000 مجلة علمية تضمها المكتبة لم تشمل طلبات الاطلاع إلا على 300 مجلة فقط خلال العام، أما المجلات التي حظيت بطلبيات متكررة فلم تتجاوز 120 مجلة فقط. وفي دراسة مشابهة ذكرت مكتبة وودز في بلفاست ان أحداً على الاطلاق لم يطلع على نصف مجموعتها المكونة من 4765 دورية متخصصة، في حين استحوذت 39 دورية فقط على 80٪ من الطلبيات!! ما أود الانتهاء اليه ان غزارة المعلومات هذه الأيام تحولت الى مشكلة تتفاقم باستمرار. فمعلوماتنا في هذا العصر تتضاعف كل ثلاثة أعوام وبحلول عام 2010 ستتضاعف المعلومات على الانترنت ب 300 مرة على الاقل. وحالياً يجب على المهندس والطبيب الذي يريد متابعة الجديد في تخصصه قراءة 2000 صفحة في اليوم ومتابعة آلاف المواقع الاخبارية المتخصصة على الانترنت! ورغم ان هناك خبراء متخصصين في «مطاردة» المعلومات، ورغم ان الانترنت تتضمن محركات بحث ماهرة في اصطياد المعلومة، ولكن النتيجة التي نراها اليوم أن المهندس يفشل في الاحاطة بالجديد في مجال عمله، والعالم يجتهد في بحث لا يعلم انه موجود، والمخترع يكتشف ان اختراعه تكرر في أكثر من مكان، والمرضى يعانون من جهل الاطباء بأبحاث جديدة قد تنقذ حياتهم - وينسحب نفس الامر على المهندسين والفنيين والصيادلة و... الكتاب!! المدهش، انه في حين يصارع البعض للحاق بطوفان المعلومات يبقى البعض غير عالِمٍ بما يجري حوله تجسيداً لقول المتنبي: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم