دفعت المؤشرات الضعيفة لوزارة الصحة أعضاء مجلس الشورى إلى مطالبة وزيرها بأن «يأخذ مشرطه لقص واجتثاث العيوب التي تحصل في وزارته!». هذا المطلب جاء على خلفية مناقشة المجلس لتقرير لجنة الشؤون الصحية والبيئة عن أداء وزارة الصحة للعامين الماليين (1428/1429، 1430/1431ه)، والذي رصد جملة من نقاط الضعف التي لا تزال ترافق أداء الوزارة، منها: (نقص الكوادر الطبية وضعف تأهيلها. كثرة الأخطاء الطبية. نقص الأدوية. تدني نسبة السرير. تدني مستوى النظافة. ضعف مستوى مراكز الرعاية الصحية الأولية، التي لا تتوفر فيها الإمكانيات، ولا الكوادر التمريضية ولا طبيب للأسرة. عدم وضوح الخطط والأهداف المؤسساتية، والاعتماد على الرؤى الشخصية). وفي تقديري، فإن كفلاً كبيراً من خطيئة تدني مستوى الخدمة الطبية التي تقدمها المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية يعود إلى ضعف الإشراف الإداري فيها. وهذا الضعف ناتج من قلة اهتمام وزارة الصحة بتأهيل المشرفين قبل تكليفهم فيما بعد، نشرت وزارة الصحة ما اعتبرته «تصحيحاً» لمعلومات المجلس عن مؤشراتها (رغم أن المجلس استمد ملاحظاته من تقريريها للعامين الماليين السابق ذكرهما)، إلا أن دفاع الوزارة حمل، فيما سكت عنه، إدانة لها أكثر مما حمل من تبرئة. ذلك أنه أغفل التطرق إلى آفات مزمنة تبدو وكأنها أصبحت ملازمة للوزارة ملازمة المعلول للعلة، كنقص الكوادر الطبية وضعف تأهيلها، وبالتالي كثرة الأخطاء الطبية التي جعلت الداخل لبعض مصحاتها مفقودا، والخارج منها مولودا. كما وأجبرت جمهرة كبيرة من المستهدفين بخدماتها على العزوف عن المتوفر منها، إلى حيث مصحات القطاع الخاص، ليكونوا كما ذلك الذي هرب من الرمضاء إلى النار، أو إلى مصحات الدول المجاورة!. أما نقص الكوادر الطبية فيشهد به الواقع البائس لكثير من المستشفيات والمراكز الصحية. يكفي أن تضطرك الظروف المرضية إلى زيارة طوارئ أحد المستشفيات لتكتوي بنار انتظار لا ترحم. أعداد كبيرة من المرضى تفترش الممرات والطرقات، فيما يخدمهم طبيب واحد أو اثنان، لا يكاد الواحد منهما يجد وقتاً يستقصي فيه المريض شفهياً عن مرضه، ناهيك عن إمكانية فحصه بالجودة المطلوبة!. الكثير من مرضى طوارئ المستشفيات يغادرونها دون أن يحصلوا على الخدمة هرباً من جحيم الانتظار. إحدى قريباتي اضطرتها الآلام المبرحة قبل بضعة أيام إلى مراجعة طوارئ المستشفى التخصصي في المدينة التي تسكنها، وبعد فترة انتظار امتدت من بعد صلاة العشاء حتى النداء الثاني لصلاة الفجر، كانت الحصيلة بضع حبيبات من مسكن (باراسيتامول)، ومطالبتها بإحضار تحويل من المركز الصحي الذي تتبع له حتى تتمكن من مقابلة الإخصائي في العيادات الخارجية، وما على الألم والمعاناة إلا الانتظار!. أما الأطباء المناوبون، (on call)، والذين يفترض أن يتواجدوا في المستشفيات، فإن استدعاءهم، حين تدعو الحاجة إليهم، معجزة، وحضورهم مشكلة. يحضر أحدهم حين يحضر وكأن على رأسه الطير، إما لأنه كان يغط في نوم عميق حين الاتصال به، وإما لأنه كان في سهرة نغصها عليه حضوره للمستشفى، فيؤدي بأنفة مفتعلة، ثم يغادر!. أما نقص الأسرة فلا أجد أفضل ما يعبر عنه مما نشرته الصحف قبل أيام من أن «مريضاً عشرينياً لم يجد حلاً لمعاناته المتفاقمة مع أزمة الأسرة بمستشفى الملك فهد بالمدينة وحاجته الملحّة لإجراء عملية جراحية لإزالة ورم في الفخذ الأيمن إلاّ قيامه بشراء سرير من ورشة حدادة على حسابه الخاص، وطلائه أيضًا بلون متناسق مع ألوان أسرّة المستشفى، ومن ثم حمله على سيارة «وانيت» والذهاب به إلى المستشفى في محاولة عفوية للتعجيل بجراحته، وتهدئة وخز الألم الذي يعانيه، وكذلك حلاً منه للأزمة التي يتعلل بها المستشفى متى طرق بابه صارخًا (ارحموني)، لكنه ما أن وصل بالسرير إلى المستشفى حتى قام المدير الطبي للمستشفى بطرده بالتعاون مع رجال الأمن». ومع كل ذلك، فالأمر لا يقتصر على نقص الكوادر فحسب، فالمثل النجدي الدارج يقول: «يالله شوي وبه( = فيه) بركة»، فلو كان نقصها يترافق مع ارتفاع تأهيل المتوفر منها لهان الأمر، لكن ما يتوفر منها ضعيف التأهيل أيضا. وهذا الضعف تجلى، ولا يزال، في الأخطاء الطبية التي تخلف عاهات مستديمة هي الأكثر، ومؤقتة، وقليل ما هي. (بينما كنت أجهز المقال لإرساله إلى الجريدة، أبت أخبار الأخطاء الطبية المميتة إلا أن تكون شاهدة إثبات حاضرة. فلقد ذكرت الأخبار أن خطأ طبيا في مستشفى تربة العام تسبب في وفاة الطفلة(.....) -سنة ونصف- إثر إعطائها حقنة مضاد حيوي دون إجراء اختبار حساسية، الأمر الذي كلفها حياتها. وقال عم الطفلة: «دخلت راما خالد ابنة أخي طوارئ مستشفى تربة العام الساعة الثانية والنصف ظهرًا وهي تشكو من أعراض صحية بسيطة عبارة عن التهاب في الحلق وارتفاع في درجة الحرارة، وكانت تسير على قدميها ممسكة بيد خالها، وبعد الكشف عليها من قبل الطبيب، وصف لها حقنة لمعالجة الالتهاب، وقامت الممرضة بإعطائها الحقنة في غرفة الضماد، وبعد خمس دقائق ساءت حالتها ودخلت في غيبوبة، وحاول الأطباء إنعاشها وإنقاذ حياتها، إلا أنها توفيت بين أيديهم متأثرة بتضخم في الرئتين، وتوقف القلب، نتيجة تحسسها من الحقنة التي أُعطيت لها دون إجراء اختبار حساسية»). وبين نقص الكوادر وضعف مستواها أصبحت الخدمة الطبية في مشافي ومصحات الوزارة كما سراب بقيعة، باطنه فيه الشفاء، وظاهره من قبله المعاناة والمأساة!، الأمر الذي أدى بكثير من مرتادي المستشفيات الحكومية إلى أن يجعلوا أيديهم على قلوبهم حذر الموت أو الإعاقة، ولا يفضلهما سوى ما تقدمه هذه المصحات من دواء يشبه «دواء جمعة، الذي لا يضر ولا ينفع!». هذا الضعف في مستوى الكوادر الطبية كان يُعزى من قبلُ لآلية (التشغيل) بجانبيها: الكامل والشامل، والتي تقوم الشركات المشغلة بواسطتها بتشغيل المستشفيات، كلياً أو جزئيا. ولربما كانت الوزارة تتعلل حينها بأنها ليست هي من يختار الكوادر الطبية، حتى ولو كانت تضمن عقودها شروطاً ومواصفات صارمة. لكن الوزارة وبدعم من جهات الاختصاص في الدولة، وعلى رأسها وزارة المالية، تخلت تدريجياً عن تلك الآلية، واستبدلتها بآلية التشغيل الذاتي، الذي تقوم بواسطته وزارة المالية باعتماد المبالغ اللازمة لبرامج التشغيل الذاتي ضمن ميزانية وزارة الصحة، فيما تقوم هذه الوزارة بتحديد الوظائف (الطبية والفنية والإدارية) التي تحتاجها، ومن ثم التعاقد عليها بنفسها. مع ذلك، ظل مستوى الخدمة كما هو لم يتحسن. ومع هذا الوضع المتردي، لا تجد وزارة الصحة غضاضة أو تناقضاً وهي تبشر المواطن بأن «هناك توجها منها لخدمة المواطن وهو في منزله»، في الوقت الذي يحلم فيه هذا المواطن أن تقدم له خدمة معقولة في المستشفيات والمراكز الصحية حين يضطر إلى مراجعتها. ومثَل هذه الوعود الطوباوية مثَل ذلك الشاب الذي عاهد أباه أن يحافظ على النوافل، في الوقت الذي لم يحافظ فيه بعدُ على الفرائض!. يُذكرني مسؤولو الوزارة عندما يتبارون للدفاع الوجداني عن وزارتهم تجاه النقود الموجهة إليها بقصة ذلك الصبي النجدي الثري الذي اشتهى اللعب مع أحد أقرانه ذات يوم، فنادى ابناً لجيرانهم الفقراء، ولما كان الجو بارداً ممطرا، فقد اعتذر الصبي الفقير عن مشاركة قرينه الثري خشية التعرض للأذى، إلا أن الصبي الثري اقترح عليه أن يعود إلى بيت أهله، ف»يلبس جوخته ويأكل حنيني»، ومن ثم يخرج للعب معه. والجوخة لباس من الصوف الثمين، كان يلبسه الأغنياء، أما الحنيني فكان أيضا أكلة نجدية فاخرة تقدم على موائد الأغنياء. هذا الصبي الثري يظن، لعيشه في النعيم، أن الآخرين يعيشون مثله. فمَثَلُه مَثَلُ مسؤولي الوزارة، الذين إما أنهم لا يعالجون في مصحات وزارتهم وبالتالي لا يقاسون مرارة تردي خدماتها، وإما أنهم إذا وردوها قُدّمَت لهم خدمات من فئة(V.I.P)، فيظنون أن المواطنين الآخرين ينعمون بنفس المستوى من الخدمة!. وفي تقديري، فإن كفلاً كبيراً من خطيئة تدني مستوى الخدمة الطبية التي تقدمها المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية يعود إلى ضعف الإشراف الإداري فيها. وهذا الضعف ناتج من قلة اهتمام وزارة الصحة بتأهيل المشرفين قبل تكليفهم. ولذلك، تجد كثيراً من مديري المستشفيات ممن هم مثبتون على وظائف من قبيل: (محاسب، أو فني إحصاء، أو فني تمريض، أو إخصائي خدمة اجتماعية، أو إخصائي نفسي «من خريجي علم النفس بالجامعات»، أو إخصائي شؤون موظفين)، وهكذا. وللخروج من أزمة التأهيل، فإن مديري المستشفيات يتخذون مديرين طبيين:(Medical Director) يكونون عادة من الجنسيات العربية، خروجاً من أزمة أخرى هي أزمة ضعف اللغة الإنجليزية لديهم، فيتولى هؤلاء المديرون الطبيون الجانب الإشرافي الطبي، ويفرضون بعد ذلك إيديولوجياتهم الإدارية والطبية التي تكون، في الغالب، داعمة في الاتجاه السالب لأسباب كثيرة. الأزمة مزمنة، والمرض مستفحل، وللخروج من الأزمة لا بد في تقديري من إعادة هيكلة قطاعات الوزارة بالتعاون مع بيوت خبرة عالمية، ثم إعادة تدوير قياداتها وفقاً للهيكل الجديد. وإلا فإن خصخصة القطاعات الصحية يظل خياراً مناسبا، مع توفير المبالغ الضخمة التي تعتمد في ميزانية الوزارة كل عام، لتغطية المواطنين بضمان صحي مناسب، فذاك أسلم من هدرها فيما لا طائل من ورائه.