الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، والبريطاني مارك سايكس اتفقا في مفاوضات سرية على تقسيم الهلال الخصيب بين عاميْ 1915 و1916م، وامتدت تلك التفاهمات إلى معاهدة لوزان عام 1923م. محور هذه المفاوضات السرية وما تمخضت عنه من اتفاقيات كان بالدرجة الأولى لحماية المصالح البريطانية والفرنسية. الولاياتالمتحدة آنذاك كانت خارج السياق، والاتحاد السوفياتي اقتحم المنطقة في ثورة أفكاره التي خلبت الألباب وأسالت لعاب الشعوب المقهورة والمطحونة، ومنّتهم الأماني بغد أفضل وتوزيع عادل للثروات. الولاياتالمتحدة دخلت الساحة متأخرة ولكنها أقصت البريطانيين والفرنسيين، ومن بعدهما الاتحاد السوفياتي لتتربع قطباً أوحد على عرش العالم بقوتها العسكرية، وهيمنتها الاقتصادية التي قدمت للعالم ثقافة جديدة كانت عراب العولمة والاجتياح الفكري لعقول الشباب تحديدا. لكن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي بدأت عصرها الجديد منذ صبيحة 11 سبتمبر 2001م لم تكن راضية عن أساس التقسيم في الشرق الأوسط فهي ترى أنه تجاهل الإثنيات العرقية، وتجاهل الحقائق التاريخية والجغرافية والمذهبية من أجل حسم التوزيع على أساس مصالح قوى استعمارية ضيقة. الولاياتالمتحدةالأمريكية تفكر بشكل واقعي بعيد المدى، وهي وإن تنازعتها قوى دينية متطرفة إلا أنها تظل دولة علمانية تفكر بالمصالح أكثر من الأيديولوجيا، ولذلك فإن أمريكا عزمت على تصحيح الخطأ الذي ارتكبه الدبلوماسيان البريطاني سايكس، والفرنسي بيكو. وهذا القصد ولّد لنا مصطلحات عديدة بعد 11 سبتمبر 2001م معظمها تستهدف التغيير الجذري في منطقتنا من أمثال العدالة المطلقة، والحرب الاستباقية والفوضى الخلاقة. الزعامة الأمريكيةالجديدة ترسي قواعد جديدة للتوزيع في منطقتنا ابتداء بالشرق الأوسط الجديد والقوى المعتدلة والأخرى الآبقة مرورا بحقوق الأقليات. وقد بدأت افرازات هذا التوجه الأمريكي تظهر من خلال التلميح إلى دول شرق أوسطية خالية من فتائل الفتنة تقوم على أساس التجانس العرقي والمذهبي والانسجام الجغرافي والتقارب التاريخي. وعلى هذا النهج نشر رالف بيترز مقالته الشهيرة عام 2005 بعنوان "حدود الدم" وقرر فيها الرؤية الأمريكية التي تؤمن بعدم عدالة الحدود القائمة مقترحاً إعادة أكثر منطقية وعدلا لرسم حدود الدول في الشرق الأوسط. اليوم مع تصاعد الثورات والقلاقل في دول الشرق الأوسط العربية نجد أن الفوضى تتقدم بسرعة لنهش أوصال دول كانت مستقرة أو يخيل لنا أنها مستقرة، وكما نراقب بقلق تلك الأحداث المتسارعة يراقبها الأمريكيون بحذر على اعتبار أنها فوضى خلاقة ستكون الطريق الأكثر مناسبة لصناعة مستقبل الشرق الأوسط بناء على الرؤية الأمريكية وليس الأوربية. هيلاري كلينتون زارت ميدان التحرير الذي صنع الثورة المصرية، ومحمد بوعزيزي بدا حاضرا في خطاب الرئيس باراك أوباما، ومعونات الدول الثماني الصناعية الكبرى المقدرة بعشرات المليارات جاءت بقيادة أمريكية لتشجيع المزيد من الفوضى لتكون الصياغة في نهاية المطاف بنكهة أمريكية. الثوار الليبيون تعلقوا بأستار البيت الأبيض، والثوار السوريون يحاولون استمالة أمريكا لصالحهم، ومؤخرا بدأ الثوار في ساحة التغيير اليمنية ينادون الولاياتالمتحدةالأمريكية لمساعدتهم في تشكيل حكومة إنقاذ وطني تنتشل البلاد من أزمتها، وذلك توجه يخالف ما عرف عن الثورات العربية التي تلوح براية العداء لأمريكا أول ما تتنفس الحياة، بل إن التوجه الطارئ يخالف مارسخ في الذاكرة من عداء تقليدي لأمريكا في الشارع العربي، فهل هي الواقعية السياسية الجديدة للثوار العرب؟ أم أننا نتعامل مع معطيات جديدة وقناعات غير تقليدية تؤكد الأصابع الأمريكية الخفية فيما يحدث في عالمنا العربي؟ ووجود مصالح أمريكية تحرك المشهد من خلف الكواليس ليس من باب استدعاء المؤامرة، ولكنه اعتراف بأن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي لم تحقق نصرا عسكريا في المنطقة منذ احتلال العراق وأفغانستان بدأت تحقق مكاسب بطرق أكثر فعالية من خلال المد الثوري الشبابي الذي تراقبه وتتدخل فيه في الوقت المناسب، وسيكون ذلك منهج التغيير في المنطقة حتى تحقق أمريكا العدالة المنشودة في إعادة رسم الحدود في منطقتنا، فمن سيربح ومن سيخسر من دول المنطقة الحالية؟