عالم جليل متبحر في شتى فروع المعرفة، ما أظن أنني مررت على كثير مثله ورعاً وتقى وفقهاً - دون تزمت - خلقاً وزهداً، تواضعاً ودقة في العمل واخلاصاً في أدائه، إنه أحد النماذج القليل وجودها في عالمنا المعاصر الذي تغيرت فيه معظم القيم، واختلفت فيه جل المعايير، واختلطت وتباينت كل المفاهيم. ** *** * أتحدث عن رجل عرفته، وعملاق صحبته لسنوات طويلة في مواقع عمل مختلفة، فكان في كل عمل أكثر دقة واخلاصاً مما سبق أن كان فيه، فهو زميل عزيز، ومرجع فذ حين كان معي في كلية التربية في جامعة الملك سعود، ثم معي أيضاً في وزارة التربية والتعليم مستشاراً أميناً قديراً، إنه العلم البارز عبدالرحمن توفيق الباني - رحمه الله - حقاً لقد كان بانياً اسماً وعملاً، فقد بنى لنفسه في قلوب كل من عرفوه مكانة عالية وبنى لهم جسراً من المعرفة الواسعة. عالم جليل متبحر في شتى فروع المعرفة، ما أظن أنني مررت على كثير مثله ورعاً وتقى وفقهاً - دون تزمت - خلقاً وزهداً، تواضعاً ودقة في العمل واخلاصاً في أدائه، إنه أحد النماذج القليل وجودها في عالمنا المعاصر الذي تغيرت فيه معظم القيم، واختلفت فيه جل المعايير، واختلطت وتباينت كل المفاهيم. ** *** * قدم من دمشق إلى المملكة العربية السعودية في عام 1964م وعمل في السنين الأولى بالإدارة العامة لمعاهد إعداد المعلمين في وزارة المعارف وشارك مشاركة رئيسة في تأسيس المعهد العالي للقضاء وساهم مساهمة فاعلة في وضع مناهج المعهد، وبرنامج الدراسة فيه، بتكليف من جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز - رحمه الله - وكان من أبرز الأعضاء الذين صاغوا سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية التي أقرت من مجلس الوزراء عام 1389ه ، ثم تنقل في عدة مراكز علمية أستاذاً قديراً وصائغاً ماهراً للمناهج حتى كان يلقب (بعبدالرحمن المناهجي) ذلك انه كان مولعاً بوضع المناهج ومهتماً بتعديلها وتصحيحها وتجديدها. ** *** * وكان من أبرز اهتماماته دراسة الفكر التربوي عند أعلام المسلمين الأوائل كالغزالي وابن خلدون وابن تيمية وابن سحنون وغيرهم فجاءت رؤاه التربوية على منهجهم راسخة مع تطويرها وتحديثها مراعاة لمتطلبات العصر. ** *** * كثيرة هي مواقفه التي يثبت فيها فائق قدراته، أذكر منها مثالين مما لي أنا بهما علاقة: أولهماً: حين شرفت بثقة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله بأن اختار لسموه لجنة المراجعة النهائية للموسوعة العربية العالمية، التي كنت أحد أعضاء الإشراف عليها، والتي تقع في ثلاثين مجلداً بدعم كريم وتمويل كامل من سموه كان شيخنا الباني أول من وقع عليهم الاختيار لهذه المهمة ثقة في كفاءته ودقته، فكان ان جاءت هذه الموسوعة - كما يحب لها - خالية من كل ما يمس العقيدة الإسلامية بسوء أو يسيء إلى التراث الإسلامي بشيء، سليمة في لغتها، بلاغة وقواعد بفضل جهده مع زملائه أعضاء اللجنة الكرام. ** *** * ثانيهما: حين تحدثت - منذ عقدين من الزمن - في اجتماع موسع يضم الكثير من قيادات التربية والتعليم ورأيت إدخال التربية البدنية في مدارس البنات - كما هو الحال في مدارس البنين - لأنه ليس هناك مانع شرعي أو تربوي يحول دون ذلك، خاصة وان الرياضة من أهم عوامل المحافظة على الجسم السليم، والعقل السليم، قام أحد الحاضرين من كبار المسؤولين منكراً هذا القول - زاعماً أنه مخالف لشريعتنا الإسلامية - وطالب بألا يوافق أحد من المسؤولين على هذا الاقتراح جملة وتفصيلاً، واشتط في القول، وزايد في الانكار معللاً ذلك بأن كرامة فتياتنا والحفاظ على عقيدتهن وطيب سلوكهن يوجب عدم التفكير في مزاولة هذه التربية البدنية في مدارس البنات، ونُشر ما قاله ذلك المسؤول في الصحف المحلية دون ان تنشر كلمتي في هذا الاجتماع. ** *** * فما كان من شيخنا الباني - رحمه الله - الا ان بادر بنصرتي حين شعر بأن موقفي هذا من التربية البدنية للبنات في مدارسهن موقف سليم، وان وصف هذا المسؤول الكبير لرأيي بتلك الأوصاف تجن منه صارخ وتطاول مرفوض وحين وجهني صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز - سلمه الله - بأن أعرض هذا الأمر على سماحة والدنا الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمة الله عليه - كان الشيخ الباني مع جمع من اخواني العلماء المحبين المخلصين معي في تلك الزيارة، وقد ذهبوا معي بمبادرة كريمة منهم لاصطحابي. ** *** * وعندما التقينا في قاعة المطالعة في منزل سماحته طلب من الشيخ عبدالرحمن الباني على وجه الخصوص، زيادة في ثقته فيه - ان يقرأ عليه نص كلمتي المكتوبة التي القيتها في هذا الاجتماع وكرر القراءة لها مرتين، ثم طلب منه أيضاً ان يقرأ ما قاله ذلك المسؤول الرافض لفكرة التربية البدنية، وبعد ان تشاور سماحته مع اخوانه الموجودين وبالأخص مع الشيخ الباني عبر سماحته عن استيائه الشديد لذلك الوصف الذي أطلقه ذلك المسؤول عن رأيي في إدخال الرياضة البدنية في مدارس البنات، وقال لي: ان كل ما قلته أنت وافق كبد الحقيقة، ويجب على هذا المتجني ان يعتذر لك على الملأ. ** *** * أوردت هذين الموقفين لأبين أموراً عن شيخنا الباني: أولاً: رحابة علمه، وسمو مكانته عند العلماء المتخصصين، والشيوخ البارزين. ثانيها: وقوفه الصامد الصادق مع الحق، ومناصرته له دون مجاملة أو تردد، فهو من الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم وكان بإمكانه ان يجامل هذا المسؤول الكبير الذي عارض ما دعوت إليه، أو على أقل الأحوال - يسكت - بحكم ان ذلك المسؤول شيخ بارز، وله مكانة وظيفية مرموقة، لكن الحق فوق كل الوظائف عند أهله. ثالثها: حسن ظنه بالآخرين، وانفتاح عقله على التطور، ومجاراة التحديث النافع. ** *** * في مثل هذا المقام لا يمكنني استيفاء بعض ما يتميز به هذا الرجل من سمات ولا التعبير عما نحمله له من اجلال وتقدير فقد ملك قلوب عارفيه واحتل موقع التقدير عند كل مخالطيه. ومن طريف وجميل تصرفاته الشخصية ما نراه في الآتي: 1- مكتبته زاخرة بكل ألوان الكتب في التراث، وفي فروع المعرفة المختلفة، تجد في الصفحة التالية للغلاف في كل واحد من هذه الكتب تسجيلاً خطياً يبين فيه: ساعة يوم، تاريخ، مكان، قيمة هذا الكتاب، واسم المكتبة التي اشتراه منها وعنوانها وقد وجدت ان بعض كتبه جاء بها من مصر أو الشام أو المملكة وغيرها. 2- حين يتحدث عن شيء مستشهداً بما ورد في بعض المراجع فإنه يذكر نص الاستشهاد مع الصفحة التي ورد فيها في ذلك المرجع، واسم المؤلف وسنة النشر ورقم الطبعة. 3- التمكن التام من دقة استخدام اللغة العربية، قراءة، كتابة، وتصحيحاً، ودقة اختيار مفردات التعبير عن أفكاره وخواطره، بلغة عربية فصحى تجمع بين الفصاحة والبلاغة. إن من شدة دقة اختياره وتمحيصه في استعمال الألفاظ لما يراد بها رفضه لكثير من تعبيراتنا الشائعة التي وجدها مستعملة بيننا في غير دقة لما أريد بها. ** * لقد ألف فأجاد التأليف، وراجع فأتقن المراجعة، وقدم لكتب كثيرة فأحسن التقديم. من مؤلفاته: (مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام)، (الفيلم القرآني)، (ابن خلدون والأدب)، (فكرة وحدة الوجود عند ابن عربي)، (فن التراجم وحاجة الأمة إليه). ومن الكتب التي قدم لها: - (اللغة العربية بين أوليائها وأعدائها). - (مقدمة في تاريخ العلم). - (العقل عند شيخ الإسلام ابن تيمية). - (معجم المصطلحات الدينية). ** *** * وخير ما اختم رثائي له هو: أنه مات عن أربعة وتسعين عاماً، وكان حتى آخر يوم في عمره ثابت الرأي - صافي الذاكرة - حاضر المعلومة، مهتماً بها، والدليل على ذلك انه طلب ان يؤتى له بمقالي الأسبوعي هذا حتى قبل موته بيومين، كما نقل لي الدكتور عبدالله حجازي أنه حين زاره وهو على فراش المرض الأخير سأله عما تم في تحقيق إحدى الموسوعات الألمانية ذات العلاقة بالفكر الإسلامي. كما أنه لا يعتذر عن القيام بأي شيء يطلب منه مهما كان عملاً مضنياً وشاقاً ما دام هذا العمل في نطاق معرفته وتخصصه، وحين يؤديه فإنه يكون على أحسن وجه. ثم إنه لا يعرف المطالب الذاتية أبداً، فلم يحدث - مع طويل عمله معي - ان طلب شيئاً مثل المكافآت أو زيادات الراتب أو بدلات عمل أبداً فهو قنوع راض غني بفضل الله عليه. رحم الله شيخنا وأستاذنا الباني - الذي وافاه الأجل المحتوم فجر الخميس 9 جمادى الأولى 1432ه في مدينة الرياض ودفن فيها - وبنى له بيتاً في الجنة. فقد كان - رحمه الله - عالماً جليلاً، فذاً، مخلصاً، مسلماً حقاً، بسيطاً، طيباً، أميناً. ** *** * وفقنا الله جميعاً إلي الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.