ما تذكرتُ احتلال العراق، إلا وانتابني ألم وحزن، وغضب، وشعور بالمهانة، وثارت في رأسي اسئلة جارحة عن ذلك الجرم الصارخ الفظيع في حق ذلك الشعب العربي الذي ذبح، ودُمر ومزق أشلاء، دُمر هكذا وبلا سبب إلا بسبب نزوة الاستعلاء وشهوة الاستبداد في الهيمنة والقتل.. وكان ذلك ضرباً من ضروب الهمجية، والعبث التاريخي... وما تذكرتُ ذلك إلا وتذكرت تلك الهوجة التي صاحبت احتلال العراق، حيث خرج علينا مبشرون ومطبلون، وراحوا ينفخون في أبواقهم إيذاناً بحفلة الموت.. زاعمين أن «الاحتلال» سوف يأتي معه بالحرية، والديمقراطية، والعدالة، وحقوق الإنسان، وأن العراق سوف يتحول إلى بلد أسطوري أفلاطوني، وأن أناسه سيصبحون نماذج للمحبة، والتراحم والتآخي، وأنه لن يكون في هذا البلد فقير ولا يائس ولا بائس، ولا مريض، أو سقيم أو عقيم.. ولن يكون هناك شقاء أو عناء ولا ظلم أو جور.. بل لن تكون هناك سجون ولا سجانون أو مساجين، وأن الذئب سيرعى مع الشاة من استتباب الأمن.. وسوف يصبح العراق جنة من جنان الله في الأرض، فسماؤه ستمطر بالرحمة وأنهاره سوف تفيض بماء الورد، والعسل واللبن. * * * وكنا نعجب، ونستغرب، ونكتب عن هذه الحمى التي ضربت أمخاخ أولئك فأفسدت عقولهم وأدخلتهم في حالة من الهذيان والهلوسة الفكرية... وكنا نقول أيها الناس إن من يحتل بلداً عنوة فإنما جاء للذبح والإبادة لاغير.. وإن من تتقدمه فيالق الجيوش الجبارة فمن المستحيل أن يكون زائراً خفيف الظل يحمل معه الهدايا، وباقات الورد، والمحبة.. فصواريخ توماهوك، وطائرات الشبح، والقنابل المنضبة بالإشعاع النووي، وطائرات الاباتشي، وكل ما في القائمة مما تفتقت عنه العقلية الأمريكية المسلحة من وسائل تدمير. كل هذه المنتجات، ما جاءت إلا لسفك الدم وتمزيق الأشلاء، وحرق الحرث والنسل وخراب الأرض... وكنا نجابَه بالنقد من هذه الفئة، كان يقال عنا بأننا لا نفهم فنون السياسة، ولا فلسفة العصر، ومعطيات العولمة.. ولقد كانت صدمتنا بهؤلاء أشد من صدمتنا بالاحتلال وجيوشه. لأننا نعرف ماذا يعني الاحتلال، وما هي الديموقراطية.. تماماً مثلما أننا نفرق بين مصارعة الثيران، ورقصة الفلامنكو.. لكنه يستعصي علينا فهم سلوك أناس يدّعون أنهم مفكرون، وفلاسفة وأصحاب مبادئ وأخلاق إنسانية، بل إن منهم أساتذة جامعيين متخصصين في العلوم السياسية وفنونها.. فلا يستنكفون بأن يخرجوا علينا بكل جرأة وتبجح، ويلقوا مواعظهم في فضائل الاحتلال، ومحامده، ويطلبوا إلينا أن نقوم بالقنوت وصلوات الشكر.. اعترافاً بجميل الاحتلال وبركته.. وكان المرء منا يصاب بالحيرة والذهول أمام هوج هؤلاء بل يكاد يفقد عقله إزاء هذه الجرأة التي تخطت حدود المنطق والمعقول ناهيك عن حدود الأخلاق والرحمة.. وكانوا يتهمون من يشكك في نوايا الاحتلال بأبشع التهم ويعتبرونه متآمراً على الإنسانية والحرية بل ربما رموه بكل مجانية وسخف بتلك التهم الجاهزة من أنه ظلامي ومتخلف، بل ربما انحدروا إلى ما هو أسوأ من ذلك فقالوا عنه إنه «طالباني».. وكانوا في تلك الفترة يمتلكون وسائل السيادة، والصوت المدوي فكرياً وسياسياً. بل اعتبروا أنفسهم الأوصياء وأصحاب القول الفصل في قضايا الأمة.. ورغم إرجافهم وجلبتهم كنا نقاومهم ونصادمهم ولا نبالي، لأننا نؤمن ايماناً لا يتزعزع بنواميس الكون وقوانينه، فالظلم سيظل ظلماً، والاحتلال هو الاحتلال، والاجرام لن يأخذ شكل الرحمة والمحبة، فمثلما أن الذئاب لن تتحول إلى حملان، فإن علقم المحتل لن يتحول إلى عسل، وسمّه لن يصبح ترياقاً... وكنا نقول إن التاريخ سيعرّي فكر أولئك، وكانوا يسخرون ويقولون وما التاريخ..؟ وأي تاريخ تتحدثون عنه؟ فالاحتلال هو صانع التاريخ بل هو التاريخ نفسه.. وها هو التاريخ الآن يضعهم كالأرانب على طاولة التشريح بعد أن وقعوا في مصيدته. * * * وإنني أسأل أولئك بكل بساطة وهدوء وأقول: هل وجدتم ما كنتم تزعمونه حقاً...؟ وأينكم اليوم مما يحدث في العراق؟ العراق الذي مزقه الاحتلال، وفرق شمل أهله وأطلق النار على أزهاره وعيون أطفاله ودواوين شعره، وأشعل النيران في متاحفه الأثرية، وشرد نصف سكانه وقتل أكثر من مليون من أبنائه، وأعطب بالجراحات الجسدية والنفسية ثلث شعبه وجره إلى كوارث التمزيق والأقلمة كما جره عشرات العقود نحو التخلف، وغرس فيه أشجار الطائفية الشيطانية وأشجار الأحقاد الفارسية.. فهل كان هذا هو المستقبل الزاهر الذي كنتم تبشرون به؟ وهل هذه هي الحرية، والديموقراطية والإنسانية التي كنتم تتحدثون عنها..؟ بل أينكم اليوم من ثورة الشعب العراقي العارمة التي تطالب برحيل المحتل وتقذف جنوده بالأحذية، كما قذفت رئيسه من قبل فهجتم وصحتم ونحتم على موت الأخلاق الفاضلة واتهمتهم الثقافة العربية كلها بأنها ثقافة حذائية، ولم تنطقوا بحرف واحد ورقبة العراق كلها ترتعش تحت أحذية جنود الاحتلال.. بل لم تعلقوا بحرف واحد فيما بعد، وأنتم ترون الشعب الانجليزي يقذف رئيسه السابق بالأحذية والبيض الفاسد لأنه ورّط شعبه في حرب مجنونة بغيضة وغير أخلاقية في العراق.. * * * الخلاصة أيها السادة إن الحق سيظل هو الحق، وفقاً للمبادئ الأخلاقية، والأعراف الإنسانية، ووفقاً للنواميس الكونية، وإن المهرجين، والمشعوذين والكهنة من مرتزقة الفكر والسياسة، سيذهبون هم وجميع أقوالهم، وأفكارهم وكل ما كتبوا إلى نفاية التاريخ، ولن يبقى لهم شيء في ذاكرة الناس إلا شيء واحد وهو أنهم كانوا أناساً لا يخجلون....