يحكي لي طبيب يعمل في قسم الطوارئ أنه استقبل حالة رجل مطعون طعنات نافذة كادت تودي بحياته، بسبب أن شابًا استوقفه وهو في طريقه للمطار، وما أن وقف حتى انهدّ عليه الشاب مع وابل من الشتائم العنيفة التي توبّخه على أنه رفع النور العالي عليه، ثم طعنه قبل أن يسمع منه كلمة واحدة، وغادر. وتتكرر مثل هذه الحادثة بأشكال مختلفة يصنع فيها بعض الناس عداوة مع مجهولين، يصل بعضها إلى الاعتداء وإزهاق الأرواح، وأقلها مايدخل المرء في شتائم وسباب. وحينما نعود للسبب نجد أنه سبب عابر، كإضاءة النور العالي دون قصد، أو تهدئة السرعة في شارع عام، أو إلقاء كلمة عن حسن نية، ثم فجأة تترك هذه التصرفات تأثيرًا سلبيًا على المتلقي، وتجعله يدخل في دوامة الشك وإساءة الظن فيلجأ إلى العنف للتعبير عن حنقه وغضبه المتأزم. طلبتُ من مجموعة من طلاب الجامعة ممن لاتزيد أعمارهم على خمس وعشرين سنة، أن يكتبوا ردّة فعلهم على ثلاثة تصرفات مرتبطة بشخصيات مجهولة يصادفونها في الشارع على النحو التالي: أن يقف أمامك سائق فيعطل السير. أن يرمي شخص زبالته من نافذة السيارة التي تمشي بجوارك. أن تتعطل سيارتك في الطريق فيأتي شخص ليساعدك. وكان عدد الطلاب 28 طالبًا، وقد وضعت لهم إجابات محددة للتصرف الذي سيقوم به كل طالب تجاه ذلك الشخص. وهذه التصرفات هي: أضربه، أصدم سيارته، أشتمه، أبصق عليه، أبلغ عنه، أتركه في حاله، أشكره، أساعده. وكانت النتيجة أن جاءت اختيارات الطلاب للموقف الأول: 7 طلاب اختاروا "أضربه"، و2 اختارا "أصدمه"، و6 اختاروا "أشتمه"، و1 اختار "أبصق عليه"، و2 اختارا "أبلغ عنه"، و9 اختاروا "أتركه في حاله"، وواحد اختار "أساعده". في حين أن الموقف الثاني وهو رمي الزبالة، فقد جاءت الاستجابات على النحو التالي: 5 "أشتمه"، و3 "أبلغ عنه"، و16 "أتركه في حاله"، 4 تركوا الإجابة خالية. وجاءت ردودهم حول الموقف الثالث الخاص بشخص يساعدك حينما تتعطل سيارتك على النحو التالي: 25 "أشكره"، و3 "أساعده". وإذا كان الموقف الذي يهمنا هو الموقف الأول، فإن الموقفين الآخرين يعكسان نمطية الشخصية في الاستجابة للمواقف. وإذا علمنا أن هذه المواقف افتراضية، فمن المتوقع أن هناك تغييرات على الاستجابة تحصل بسبب الواقع. ومع هذا، فإن الاستجابة كانت مؤشراً يمكن أن يضع أيدينا على نزعة العنف التي تصاحب سلوكنا. إن دراسة هذا السلوك والبحث عن أسبابه من أبرز المهام التي يجب أن تنهض بها المؤسسات البحثية والتعليمية للتعرف على سبب هذه الحساسية المفرطة التي يتسم بها عدد لا بأس به من أفراد مجتمعنا، وعلاقتها بالتنشئة الاجتماعية أو الضغوط الاقتصادية أو الاجتماعية أو عوامل البيئة، أو أساليب التربية والتعليم، وكذلك جوانب الشخصية ومستوى النضج العقلي والتوازن النفسي فيما يعرف بالذكاء العاطفي. وإذا وضعنا اليد على مكمن المشكلة، فيمكن أن نخطط للتغلب على هذه المشكلات في المناهج وأساليب التربية المتبعة، وتبرز الحاجة الماسة لتدريب الطلاب منذ سنواتهم الأولى على ضبط مشاعرهم، ومحاولة التحكم في تصرفاتهم عن طريق التدريب والممارسة لكي تصبح سمة تقودهم إلى النجاح في التعامل مع الآخرين، والحصول على مكاسب معنوية تعزز قدراتهم، وتدفع بهم إلى استغلال طاقاتهم فيما هو أكثر جدوى من إهدارها في الشتائم وملاحقة الآخرين. وبالله التوفيق..