حين قال زهير بن أبي سلمى قبل خمسة عشر قرناً: ما أَرانا نَقولُ إِلّا معاراً أوَ مُعاداً مِن قَولِنا مَكرورا كان قوله هذا نتيجة تجربة ثرية جعلته من أصحاب المعلقات ويعلق شوقي ضيف في (تاريخ الأدب العربي) على بيت زهير مشيراً إلى شعور زهير بأنهم يبدؤون ويعيدون في ألفاظ ومعان واحدة، ويجرون على طراز واحد طراز تداولته مئات الألسنة بالصقل والتهذيب؛ فاتجهوا إلى قوالب التعبير، حتى أصبح المدار على القالب لا على المدلول والمضمون. فهم يظنون أن الأول لم يترك للآخر شيء لأن الكلام بعضه آخذ برقاب بعض ولذا قل أن يأتي أحدهم شعرا أو نثرا بمعنى جديد لم يسبق إليه. ويعتبر موضوع السرقات الأدبية من أهم الموضوعات التي عني بها النقد العربي قديما وحديثا للوقوف على مدى أصالة الأعمال الأدبية المنسوبة إلى أصحابها ومقدار ما حوت من الجدة والابتكار أو مبلغ ما يدين به أصحابها لسابقيهم من التقليد والإتباع، وها هو ذا طرفة بن العبد يعلن براءته قائلاً: ولا أغير على الأشعار أسرقها عنها غنيت وشر الناس من سرقا ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل كل تشابه في الفكرة أو المعاني أو الألفاظ أو الصورة أو الأسلوب هو سرقة؟! وهل كل شاعر متأخر هو بالضرورة قد أخذ عن الشاعر المتقدم؟! حدثني الشاعر خلف بن سرحان رحمه الله (ت 1429ه) وهو رجل عامي لا يقرأ ولا يكتب أنه قال ضمن إحدى قصائده: ليت العذارى لابسات اللثايم طوال الذوايب طيبهن زين رايحه ما يفقدن اللي يعشي قرايبه في ليلة ما تسمع الكلب نابحة فسمع منه ذلك أحد الأدباء في مكةالمكرمة فأخبره أن قوله يشابه قول الشاعر العربي: في ليلة من جمادى ذات أندية لا يبصر الكلب من ظلماتها الطنبا لا ينبح الكلب فيها غير واحدة حتى يلف على خيشومه الذنبا وهو إنما قال بيته عن معرفة وتجربة شخصية ولم تمر سمعه أبيات هذا الشاعر العربي قبل أن يخبره بها هذا الأديب!! ومثل ما وقع لابن سرحان وقع لسويلم العلي السهلي في وصف الخلوج حيث قال: وتصن مثل اللي يوصى وصايا تبي لعلها سموعها يسمعني وهو بيت يتشابه مع قول ذي الرمة في وصف الناقة : تصغي إذا شدها بالكور جانحة حتى إذا ما استوى في غرزه ويمكننا أن نضيف لهما مثالاً آخر يتشابه فيه ثلاثة شعراء بين الفصيح والمليح فهذا أبو حمزة العامري من قدماء شعراء النبط يقول: وترى الدجاج كثيرة أفراخها أما الحرار قليلة الأنضاء ألا نرى قول العامري يتشابه مع قول الشاعر العربي: بغاث الطير أكثرها فراخا وأم الصقر مقلاة نزور ويتشابه البيتان في معناهما مع قول السموأل: تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل فهذه الحالات قد شخصت منذ عهد بعيد وعرفها النقاد كما عرفها الشعراء، فقد سئل عنها أبو عمرو العلاء وهو الناقد الخبير فقال: "تلك عقول رجال توافت على ألسنتها" كما سئل عنها أبو الطيب المتنبي وهو الشاعر العظيم فقال: "الشعر جادة وربما وقع الحافر على موضع الحافر" ويرى أبو هلال العسكري أن المعاني مشتركة بين العقلاء وإنما تتفاضل الناس في الألفاظ ورصفها وتأليفها ونظمها، فليس في كل الأحوال أن يكون المتأخر قد سرق من المتقدم وللحديث بقية.