على عكس ما يرى كثيرون، كنتُ وما أزال أعتقد بأن نزار قبّاني من أعمق الأصوات في الشعرية العربية الحديثة. وأن «السهولة» التي يتمتع بها شعره هي أحد أهم الأسباب التي كوّنت له هذا العمق الذي من المعيب نفيه لمجرّد أن صاحبه شاعر جماهيري أو لمجرّد أنه معشوق الطلبة والمراهقين. لكنني في هذه الوقفة لست بصدد الدفاع عن نزار قباني، بل على العكس تماماً، وللأسف، أنا في موقع اتهامه. فقد تكرّرت مسألة سطوه على أشعار غيره، خصوصاً الشعراء الغربيين. فهذا الشاعر الذي حفظتُ المئات من أبياته في بداياتي، يكاد لا يمرّ شهر إلا وأكتشف له سرقة جديدة من شاعر غربي. آخر هذه «الاكتشافات» من قصيدته الشهيرة «التمثال»، فأشهرُ أشطُرِها: «إن الكلام يموت حين يقالُ»، منسوخ حرفياً من عنوان قصيدة للشاعرة الأميركية إيميلي ديكنسون: «الكلام يموت حين يُقال»! بالطبع الأمثلة كثيرة ولا حصر لها، وعلى كل حال كانت «الغاوون» قد نشرت في عددها السادس (1 آب 2008) تفاصيلَ فضح صاحب «دار الآداب» سهيل إدريس لسرقة نزار قباني قصيدةً شهيرة لجاك بريفير هي قصيدة «فطور الصباح»، ليصنع منها واحدة من أشهر قصائده وأجملها: «مع جريدة»! وكان من أسباب قيام سهيل إدريس بذلك - رغم صداقته وشراكته لنزار قباني في تأسيس «دار الآداب» - خلافٌ مادّي. أما كيف فعل إدريس ذلك؟ فمن خلال روايته المعروفة «الحيّ اللاتيني» التي ضمّنها حكاية عن انتحال إحدى الفتيات لقصيدة بريفير المذكورة، وادّعائها أن القصيدة لها، من ثم سرقة مال بطل الرواية. وبعد اكتشاف البطل أن الفتاة سرقت ماله، يكتشف أيضاً أنها سرقت قصيدة بريفير، ليقول: «على أية حال... إن من يسرق شعر رجل مثل جاك بريفير، لن يتورّع عن سرقة مال رجل مثلك»! حال محمود درويش، أنجب تلامذة نزار قبّاني، ليست أفضل من حال أستاذه. لكن مع احتراف أكثر. والوقفة هنا طويلة، من قصائد لوركا التي يكاد درويش قد نهبها نهباً، وصولاً إلى سرقات متفرّقة من هنا وهناك. السيّاب أيضاً وأيضاً. بالطبع ستقولون إنني اختار الشعراء الغنائيين. وبالطبع سأجيب ب«نعم» لأنهم الأكثر نشاطاً في هذا المجال. نزار ودرويش والسيّاب وبعض الغنائيين الآخرين كانوا يستطيبون أخذ الجمل الجميلة وعجنها في قالبهم الغنائي. وفي ظنّي أن الغنائيين تخصصوا أكثر من غيرهم في هذا النوع من السرقات، الذي نستطيع رسم ملامح وتحديدات له: فهم في الجُمَل يفضّلون تلك التي تحمل شُبهة المانيفستو، المغمَّسة ببعض الحكمة. وفي الصور يفضّلون الحسّية منها. وفي الفكرة يُفضّلون الحكاية، أي تلك الأفكار المسرودة على شكل قصة. بل إنهم أحياناً يتشاركون الاقتباس نفسه، ويستعملونه بلا أدنى حرج، مثلاً استعمالهم لجملة لوركا الشهيرة: «تموت الأشجار واقفة»، التي استعملها بلا حرج أيضاً الأخطل الصغير في إحدى مرثيّاته: «تموتُ وهي على أقدامها الشجرُ» (هنا أستطيع الاستطراد بأن لدى هؤلاء الشعراء ميلاً مؤكَّداً إلى الصور الشعرية المأخوذة من غرائب الطبيعة: صورة البجع الذي ينام واقفاً، السمك الذي ينام مفتح الأعين، طيور الأوز التي تغنّي حين تُحتضَر...). ألسنا هنا، في موضوع استطابة السرقة، أمام امتداد لتقاليد الشعر العربي الغنائي القديم، ومن بينها وقوع الحافر على الحافر... وإن عمداً؟