يقرأ كثيرٌ من المراقبين ما تقوم به إيران في محيطها الإقليمي على أنه خطر داهم يتهدد الجميع ؛ لأن كل ما تقوم به إيران خارج حدودها ، وعلى كل المستويات ، يدعو إلى الريبة والتوجس ، ويمنح كل قراءة ارتيابية نوعاً من المصداقية التي تحتاجها التيارات الحركية الإيديولوجية لتلهب بها خيال جماهير العنف ، أولئك المتعطشين إلى الاصطفاف ، أولئك الذين لا يجدون أنفسهم وجودا حقيقيا أو وجود هوية إلا في ميادين الصراع . ما يحرك السياسة الإيرانية ، سواء في الداخل أو في الخارج ، ليست المبادئ العقائدية كما يَدّعي غلاة العقائديين . ما يحرك السياسة الإيرانية ليس أكثر من غرائز سياسية بدائية ، لا تزال تعيش أحلام الإمبراطوريات كما في الزمن القديم السياسة الإيرانية ، منذ ما قبل إيران الخميني وإلى اليوم ، كانت سياسة توسعية ، كانت سياسة هيمنة تتعمد تطويع الآخرين . ومن هنا كان لابد أن تصطدم بممانعة الآخرين ، وبتخوف الآخرين . إن الخوف والممانعة يورثان الطرف المقابل (الطرف الذي يقرأ سلوك قُوَى الهيمنة) إحساسا بالعزلة ، إحساسا بأنه غير مقبول في محيطه الذي يراه كجزء من فضائه العام . وقد يتطور ذلك إلى شعور حاد بأن الآخرين ينظرون إليه كعدو مكروه ، ومن ثم ، يبدأ تلبس حالة العداء ، أي يبدأ يمارس سلوكه على ضوء ما تمنحه إياه توقعات الآخرين . ما يحرك السياسة الإيرانية ، سواء في الداخل أو في الخارج ، ليست المبادئ العقائدية كما يَدّعي غلاة العقائديين . ما يحرك السياسة الإيرانية ليس أكثر من غرائز سياسية بدائية ، لا تزال تعيش أحلام الإمبراطوريات كما في الزمن القديم . ما يحرك إيران هو ما تعتقد إيران أنه يصب في مصلحة (إيران العظمى!) على نحو مباشر أو غير مباشر . وهي اليوم ترى أن مصلحتها تكمن في الهيمنة على كل الدول التي تنتمي إلى محيطها الإقليمي ، وأن تكون لها الكلمة الأولى والأخيرة في توجيه المحددات الرئيسية لسياسة هذا المحيط . ليست العقائد هي ما يحدد طبيعة السياسة الإيرانية ؛ إلا بمقدار ما تخدم هذه العقائد فرضايات السياسة الأولى . حتى غلاة العقائديين المتنفذين في السياسة الإيرانية ، لديهم استعداد غير محدود وغير مشروط لتوظيف العقائد وتطويعها من أجل فاعلية أكبر للعملية السياسية التوسعية ، وليس العكس ، كما يتصور بُسطاء المتدينين . النَّفَس البراجماتي المُوغل في ذرائعيته هو النَّفس المتحكم في الخطوط الرئيسية للسياسة الإيرانية التي تنتهجها دولة المُعمّمين ، الدولة الثيوقراطية الوحيدة في القرن الواحد والعشرين . لا شك أن إيران استطاعت ، بما تمتلكه من إمكاناتها كدولة كبرى في المنطقة ، أن تخدع بشعاراتها كثيرا من جماهير البائسين ، وأن تلعب على أوتار الطموحات الأممية لعامة المسلمين . ولا شك أن الشعارات الدينية كانت هي الأجدى والأقوى في هذا المضمار ، مضمار خداع أولئك الذين لا يزالون يعيشون التاريخ بأكثر مما يعيشون الواقع . أي أن إيران استطاعت تحقيق نوع من الحشد الذي يمنحها قدرا من التعاطف الجماهيري ، كما استطاعت الظفر بعدد محدود من العملاء المتطوعين . ليست المشكلة هنا ، في أن إيران تنتهج سياسة توسع وهيمنة ، ولا في كونها تستقطب بشعاراتها المعلنة ، وبدعمها الخفي أكبر قدر من الأتباع ، وإنما تكمن المشكلة في نوعية القراءات التي بدأت تنداح في الساحة ، والتي تحاول الكشف عن طبيعة السياسة الإيرانية ، وذلك بالتركيز على الأبعاد العقائدية للمذهب الرسمي في إيران (= التشيع الإثني عشري) ، وكأن تلك الأبعاد العقائدية هي مصدر الرؤية السياسية لإيران ، أو أنها المحرك الدائم للصراع الدائر منذ أمد بعيد بين إيران وجيرانها الإقليميين.. إيران كدولة هي كيان سياسي محدود بحدود الزمان والمكان . إيران ، كأية دولة ، حالة طارئة ، لها عمرها الافتراضي ، كما أن لها حدها الجغرافي الخاص . إيران مهما تشيعت ، ومهما بلغت درجة تبنيها للتشيع ، تبقى غير متطابقة مع التشيع وجودا وهوية.. التشيع ليس هو إيران ، كما أن إيران ليست هي التشيع . التشيع أكبر من إيران ، وأطول منها عمراً . التشيع كمذهب ، وُجد قبل إيران وسيبقى بعدها ، وهو موجود خارج إيران ، كما هو موجود داخلها ، وهو معارض للسياسة الإيرانية في بعض أطيافه ، كما هو مؤيد لها في بعض خيارات أطيافه الأخرى . ومن هنا ، لا يمكن بحال تحميل المذهب الشيعي جرائر السياسة التوسعية ذات الطابع الإمبراطوري لإيران ؛ لأنه ليس هو المحرك الأساس بل ولا الثانوي لما نراه اليوم من خيارات سياسية شوفينية تطبع سلوك الساسة الإيرانيين . أفهم ، وربما أتفهم أيضاً ، أن يتم فحص طبيعة علاقة إيران بالتيارات الحركية الشيعية في أي مكان ؛ لأنها في النهاية ذات بُعد غائي سياسي . كما أتفهم حقيقة أن العلاقات الاتباعية ذات الطابع السياسي تبقى شيئا مقلقا ، ولابد من مواجهتها وفضحها على أكثر من مستوى ، وفي كل مجال . لكن ، ما لا أفهمه ، وحتى إن فهمته لا أتفهمه ، هو هذا التناول التحريضي الذي يستغل فرصة الاصطفاف السياسي لتصفية خصومات الفكر ، والذي يعمد إلى استحضار مسائل عقائدية خلافية في هذا المعترك السياسي ؛ مع أنها (كمسائل عقائدية لا علاقة لها بالأحداث الجارية اليوم ، لا بشكل مباشر ، ولا بشكل غير مباشر) لا تقدم ولا تؤخر في تحديد طبيعة الخيارات السياسية ، ولا في تقدير مستويات الصراع . إن غلاة الغلاة من متطرفي التقليدية قد استغلوا سخونة الأحداث الراهنة ، وما تتمتع به هذه الأحداث من نفس صراعي ، وذلك من أجل نبش المطمور العقائدي ، والتشنيع على الآخرين ، ونقل الصراع الدائر اليوم من نطاق الصراع السياسي على المصالح ، إلى نطاق الصراع على مسائل الاعتقاد ، أي نقل الصراع من مسائل محدودة زمانا ومكانا إلى مسائل تاريخية يستحيل الإمساك بها ، فضلا عن الوصول بها إلى نقطة اتفاق . لقد تصور غلاة الغلاة من سدنة التقليدية أن بإمكانهم أن يستثمروا الأحداث في الترويج لمقولاتهم الخاصة ، وأن تصفية الحسابات الفكرية لن تجد مكانها المناسب إلا في هذا الظرف المشحون سياسيا ، وأن أحدا في مثل هذا الظرف الاستثنائي لن يعترض على حِدّية مقولاتها ، ولا على اتهاماتها الطائفية التي تصل إلى حد التكفير الصريح المتضمن لكل مقدمات الإلغاء . عندما تسمع النقاشات الإعلامية التي تعالج موضوع التدخلات الإيرانية ، والتي تبدأ وتنتهي للأسف بالخلاف العقائدي على يديْ غلاة التقليديين ، لا تدري ، هل الخلاف بيننا وبين إيران هو فيما نراه ونسمعه من تدخل فجّ في الشأن الداخلي ، واحتلال لبعض الجزر الإماراتية ، واستشراء النفوذ غير المشروع في العراق ، وادعاءات في البحرين ..إلخ ، أم أن الخلاف متحدد في الموقف الفكري من فلان أو فلان قبل أكثر من ألف عام ؟! إن الخلاف بيننا وبين إيران هو خلاف محض سياسي ، أي أنه ظرفي ، فلماذ يُصرّ الغلاة المتطرفون على جرّه من منطقته المدنية الظرفية إلى منطقة الصراع العقائدي الأزلي؟ ، لما تفتح القنوات الإعلامية المتطرفة (الذكورية!) أبوابها لكثير من الغلاة ، بل لكثير من غلاة الغلاة ؛ تحت مظلة نقاش السياسة الإيرانية في المنطقة ؟ ، لماذا تُطرح مسائل عقائدية صرفة في سياق مساءلة السياسة الإيرانية ، وكأن الصراع الجاري على مصالح بين الدول هو صراع على مسائل الاعتقاد ؟! اليوم ، وفي ظل الاستغفال الإعلامي الرخيص ، تقوم قنوات التطرف التي تتراءى في لبوس التسامح والاعتدال برحلة الحشد الطائفي . لقد بدأت تلك القنوات المتطرفة تستضيف غلاة الغلاة من مروجي مقولات التقليدية وأدبياتها التكفيرية؛ وكأنها تستضيف رموز التسامح والاعتدال . تلك القنوات الهابطة فكرياً بدأت تبتسم ظاهريا ، بينما فحيح مقولات التقليدية المتضمنة لكل التُهم المنتهية بالتكفير ، هو الصوت الأشد لصوقاً بمسامع المشاهدين المشدودين إلى مسرحية هابطة تحكي قصة صناعة وترويج الكراهية والعداء . وإذا كان من الطبيعي أن توجد شبكات تجسس ، وأن توجد ولاءات معلنة وغير معلنة ، تابعة لإيران ، فليس من الطبيعي أن يتم ربط هذا بمذهب يحظى بكثير من الأتباع في كل زمان ومكان . من الطبيعي لدولة توسعية كإيران أن تسعى لاستثمار كل ما هو موجود لصالحها ، وأن تسعى لكسب كل المبتعدين عن طوائفهم أو الغاضبين على أوطانهم ، ومن الطبيعي أن نناقش مواقف هؤلاء بكل صراحة ووضوح . لكن ، ليس من الطبيعي أن تحسب هذه الولاءات كجزء من مكوّنات المذهب ، وأن يلحق عارها ببقية الأتباع.. إنني هنا لا أطالب بعدم مناقشة الخلافات المذهبية والفكرية ، ولا أميل إلى السكوت السلبي عنها ، بل على العكس ، أطالب بفتح جميع الملفات ، وبتحرير جميع مسائل الخلاف ، وأن يستمر الحوار العلمي حول كل ذلك بلا توجس أو تخوف ، وأن تشترك في ذلك جميع الأطراف . لكن ، عندما يتم ذلك ، لابد أن يتم في إطار فكري خالص ، ومن خلال منابر إعلامية تتمتع بالحد الأدنى من الحياد . لايصح أن يتم هذا النقاش الفكري والديني حول تلك المسائل في إعلاميات متطرفة ، إعلاميات موجهة . كما لايصح أن يتم ذلك في سياق سياسي محتقن ، وأن يستغل الغلاة المتطرفون ذلك من أجل الترويج لمقولاتهم ، ومن أجل تثبيت أقدامهم في واقعنا ؛ بعد أن تزعزعت مواقعهم واضطربت مواقفهم ؛ نتيجة عشر سنوات كاملة من معاناة المجتمعات الإسلامية منهم ، وإدراكها أنهم (= غلاة التقليدية) المسؤولون عن بزوغ ظاهرة التطرف والإرهاب .