يعتبر الشاعر بديوي الوقداني من أشهر الشعراء الذين سارت بقصائدهم الركبان وسعى إليها عشاق الشعر الأصيل، عاش الشاعر في ربوع الطائف وتوفي بها عام 1296ه كما يشير محمد سعيد كمال في «الأزهار النادية من أشعار البادية»، وكان ينظم الشعر باللغتين الفصحى والدارجة، وفي جميع الأغراض، وقد منحه إبداعه مكانة رفيعة لدى الأوساط الاجتماعية والسلطات الحاكمة، وعالج كثيراً من القضايا السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية والمواقف الطريفة. ونال شعره اهتماماً من الرواة قل أن يناله شاعر آخر، وقد أثرت ثقافته وتحضره في مكونه الشعري. وأول القصائد النبطية التي نشرت في صحيفة أم القرى عام 1358ه من شعره وقد نسبت في الصحيفة لغيره ومطلعها: دنياك هذي كلها هز قاووق ما تعرف الصاحب من اللي معاديك وهي من قصائده في الحكمة وانتقاد بعض أهل زمانه . وتلمس في شعره بالدارجة نزوعه إلى الفصحى كما في قصيدته التي مطلعها: أول استبداي باسمك ياحنون يا كريما ما تخالفه الظنون ومنها : إن في قلبي جروحاً ما تطيب ما بدت حتى يداويها الطبيب من هواجس جات من فرقى حبيب باح مكنوني وصبري مستحيل وهذه من عيون قصائده، واشتهرت بقصيدة «حمام الدوح» أما القصيدة التي جاراها كثير من الشعراء فهي قصيدة دينية تعالج قضية الموت والحساب والحياة الدنيا والآخرة: أيامنا والليالي كم نعاتبها شبنا وشابت وعفنا بعض الأحوالِ تاعد مواعيد والجاهل مكذبها واللي عرف حدها من همها سالي إلى قوله: والناس اجانيب لين انك تصاحبها تكون منهم كما قالوا في الأمثالِ ومن نباهته وسرعة بديهته أنه كان بمجلس الشريف ابن عون أمير مكة، وحدث أن سقط خاتم الشريف وانصدع فصه فانزعج الشريف لذلك فارتجل الوقداني هذين البيتين من شعر الفصحى سر لهما الشريف: لا تخش يا ابن رسول الله من حجر رأي المكارم في كفيك فانفجرا وافاك سعدك إذ وافى السعود وقد أعطاك ربك سعداً يفلق الحجرا وحدث أن شاهد بعض الأوروبيين في مجلس ابن عون في الطائف فاستنكر ذلك، وكانت مشاهدة الأوربيين بمجالس السلطان نادرة، ويخشى الناس من مكرهم، فأنشأ الشاعر بعد ذلك قصيدة منها: آخر زمان وكل من عاش خبَّر وبغيت اقول الميت ارجا من الحي إلى قوله: والطير الاخضر صاحب الطير الاصفر وطيور ما تعرف لها وجيه وقفي والنمر جنَّب والحصينى تنمَّر يحسب سباع الغاب من جملة القي والنمل جا له ريش والنسر عمَّر وليا استمد الحبل لابد من طي كان المجتمع في زمن الوقداني لم يتسع لغير أبنائه، إذ لم تتداخل المصالح ولم تتعدد مجالات النشاط البشري . والناس يشكون من تبدلات الأحوال ويردون ذلك إلى زمانهم، وينسون أن الإنسان هو من يساهم في إدارة محور التغير، وأن من سنن الحياة تغيرها، والشاعر هو لسان حال الناس يعبر عن سعادتهم مثلما يعبر عن شكواهم، وينقل عنهم تقاليد زمانهم لذا قال الوقداني: انفكّت السبحة وضاع الخرز ضاع وازريت المّه يا سليمان وازريت صار الذهب قصدير والورد نعناع أنكرت ريحه مختلف يوم شمّيت الباب طايح والمسامير خلاّع والحب فيه السوس والفار في البيت إلى قوله: وانا مربَّي من زمان ومطواع ربتني الايام حتى تربيت ونحمد الله على نعمة الأمن والاستقرار والرخاء. وشكوى الزمان سِبق الوقداني إليها وسيأتي من يحذو حذوه، وهي شكوى يولدها طموح الإنسان وطمعه في تحسين أحواله، وللناس فيما يعشقون مذاهب . ومن طرائف شعر الوقداني أنه تحدث مع صديق له يدعى العيوني كثيراً ما جمعهما مجلس ابن عون ، وقد تحدث حديثاً في حق ابن عون، نقل إليه فساءه فأمر بسجن العيوني وتوعد الوقداني بالسجن إن لم يعتذر إليه، وفي زيارة الشاعر لابن عون سأله هذا عن العيوني فقال: لي خمسة اشهر في البلد ما تعلّمت اسمع وادع ماني سواة العيوني واحب راعي المنطق الزين والصمت وان شفت انا ما اقول شافت عيوني فأعجب ابن عون من اعتذاره ومن أخبار الوقداني الطريفة، وهي مما يحفل الأدب العربي بكثير منه، وعادة ما تحدث بين الوسطاء لدى السلطان والمستفيدين من عطائه، إذ لا يتورع بعض الوسطاء في سلب المستفيدين شيئاً من أعطياتهم، ومنهم من يتقبل الأمر بروح استسلامية رغبة في توطيد علاقة بالوسيط وطمعاً في ذكره لدى السلطان والثناء عليه، ومنحه مزيداً من الحظوة والعطاء، ومنهم من لا يقبل الابتزاز مثل الوقداني الذي بخسه الوسيط شيئاً من مخصصه، ويسمى الوسيط مقدماً لتوليه صرة العطاء وفق جدول الأعطيات والمقررات، ولما ماطل المقدم الشاعر في السداد قال الشاعر مخاطباً ابن عون على سبيل الدعابة وهي مقبولة من ذوي الحظوة من الشعراء: سلام يا بن عون عساك تسلم يا نجم من فرع النجوم المطلات يا سيدي شاكي عليك المقدم نقص من المعلوم خمسة ريالات عيا عليها ما قدرت اتكلم وليا طلبته قال هذي حوالات إلى قوله: كتبت لي جوخة وسلماً مسلَّم لا سلم جا وافي ولا جوختي جات إن جيت أطلبها عليها تقدم وان جيت أصبر حط فيها دبارات إلى قوله: كم واحد من سوق مالك تغنّم واليوم لابس له من الجوخ بدلات ويركب جياد الخيل وامسى معظًم أشرد من العصفور لو تنهمه مات ولو كان راسه يوجعه ما تحجّم خايف يشوف الدم ويموت فجعات أما عن شعر الفصحى فإن الوقداني له منه قصائد كثيرة من أشهرها مرثيته في أمير مكةالمكرمة في زمنه عبد الله ابن عون ومنها . الملك لله والدنيا مداولة وما لحي على الأيام تخليد والناس زرع الفنا والموت حاصدهم وكل زرع إذا ما تم محصود ولا يدوم سرور لا ولا كدر وهكذا الدهر تصدير وتوريد والناس ذا فاقد يبكي أحبته وذاك يبكي عليه وهو مفقود وذاك أبدت له الأيام زينتها وذاك من يومه هم وتنكيد ومن حدة ذكائه وسرعة بديهته أنه دخل مرة على ابن عون وكان عنده بعض القناصل الأجانب فطلب منه ابن عون مرافقتهم لمشاهدة بعض الضواحي، وكان الوقداني يكره رؤية هؤلاء وابن عون يعرف ذلك، وتقديراً للشريف استسلم الشاعر ونفذ الأمر. وعندما عاد من الجولة سأله أحدهم: «مالي أراك تقنصلت يا بديوي؟» فأجاب: «القدم يتبع الراس»، فنقل ذلك لابن عون. فلما زاره بديوي في اليوم التالي سأله: ماذا قلت ؟ قال ارتجالاً: قالوا تقنصل ما تخاف الملاية ما تستحي وانت قصير ابن عباس؟ قلت العفو ما اغوي دروب الهداية الدرب واحد والقدم يتبع الراس وياكم اعلّم في التيوس الهجاية اللي يصاحب كلب للصيد لا باس فأعجب ابن عون من رده رحم الله بديوي الشاعر المدرسة الذي نقل إلينا عبر شعره صوراً عن المجتمع الذي عاش قبل ما يزيد عن مائة وثلاثين عاماً. وتجربة الشاعر أغزر مما أوردنا من نماذج، والاطلاع عليها أيسر من الاطلاع على تجارب آخرين لأنه نشأ في بيئة احتفظت بكثير من شعره، ولأن شعره جدير بالعبور إلى الحاضر والمستقبل.