سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
لا تعجبي يا هند من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى (دعبل الخزاعي) أنا اليوم يا حمّاد ربعي تفرقوا،كما ملحٍ أمسى بالغدير وذاب (سرور الأطرش) من فنون البلاغة في الشعر الفصيح والشعبي
البلاغة موهبة تصقل بقراءة وحفظ أشعار البلغاء وآثارهم. والجدير بالذكر أن الموهوب يتجه تلقائياً للشعر البليغ فيما يحفظ ويستسيغ كما تتجه البوصلة للشمال، ويتجاوز ردئ الشعر ويمجه ذوقه كما يمج الفم الماء المالح. وبما أن البلاغة موهبة وصفة ذاتية كالكرم والشجاعة فإنها توجد في المتعلم والأمي، في الفصيح من الشعر والعامي، غير ان تذوقها يحتاج إلى فهم اللهجة والبيئة وأساليب العيش والتعبير.. أي ما يطلق عليه النقاد. الذوق التاريخي فلن يحس ببلاغة وصف الناقة من لا يملك الذوق، ويعرف تلك البيئة ويدرك ظروفها.. ولن يتذوق الشعر الشعبي من لا يعرف اللهجة التي قيل بها، والمحيط الذي خرج منه.. نخلص من هذا إلى ان البلاغة تتوافر في الشعر الفصيح والشعبي، كل بمقاييسه، وإنما يمتاز الفصيح بأن لغته أقدر على التصوير والتعبير وأكثر ثراءً وانتشاراً وفهماً على مستوى العالم العربي كله. من بليغ الشعر الفصيح قول المعري في السيف: «سليل النار دق ورق حتى كان أباه أورثه السلالا» فقد كنى عز السيف، أي رمز له، وبلاغة البيت لا تقتصر على الكناية وإنما تتعداها إلى دقة التصوير وروعة التعبير وإلباس الجماد ثوب الحياة فهو له حسب ونسب ووراثة.. وقول الزمخشري يدعو الله جل وعلا: يا من يرى مد البعوض جناحه في ظلمة الليل البهيم الاليل ويرى عروق نياطها في نحرها والمخ في تلك العظام النحل اغفر لعبد تاب من فرطاته ما كان منه في الزمان الاول فقد برع في ذكر جزئيات صغيرة لكائن صغير وبشكل شاعري وقول الشاعر : كم وجهٍ مثل النهار ضياء لنفس كالليل في الاظلام فقد أتى بتشبيه بليغ ليس غاية في ذاته ولكن لترسيخ الصورة في خيال القارئ والسامع وتأكيد الفرق بين المظهر والمخبر.. وقول البستي: ونذل الرجال كنذل النبا ت فلا للثمار ولا للحطب فالتشبيه مع جماله يجسم الفكرة ويجسد الصورة ويقدم الدليل ويصور الخصلة المعنوية (النذالة) بأمر محسوس وهو خسيس النبات وسامه. وقول المتلمس: ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلان عِيرُ الحيّ والوتد هذا على الخسف مربوط برمته وذا يُشَجُ فلا يرثي له أحدُ فقد أجاد اختيار ما يدل على منتهى الذل وقبول الضيم والظلم. ويقول المتنبي في هجاء كافور: يستخشن الخز حين يلبسه وقد كان يُبرى بظفره القلم فقدم صورة ناطقة للتناقض.. تشبه (الكاريكاتير) وقوله يرثي قائداً: ما كنت أمل قبل موتك ان أرى رضوى على أيدي الرجال يسير فرضوى جبل عظم بالمدينة لا يمكن ان يحمله الرجال وهذا يصور هول موت هذا القائد وأهميته. ويقول أبو تمام: من كان منزوع الحياء فوجهه من غير بواب له بواب فشبه وجه منزوع الحياء بالحارس الشرس الذي يذكرنا بكلب الحراسة.. ولكن يحرسه من ماذا؟ من المكارم طبعاً، فكلمة (لا) جاهزة والاحراج غير وارد! ويقول شوقي عن حياتنا: حياة ما نريد لها زوالا ودنيا لا نود لها انتقالا وأيام تطير بنا سحابا وان خيلت تدب بنا نمالا نريها في الضمير هوى وحبا ونسمعها التبرم والملال قصار حين نجري اللهو فيها طوال حين نقطعها فعالا ولم تضق الحياة بنا ولكن زحام السوء ضيقها مجالا فقد برع في تصوير حكاية الانسان مع الحياة بشكل بليغ، فالأيام تجري سريعة وان لم نحس بها، وأيام السعادة قصار، لكن أيام العناء ثقال، والناس كلهم يحبون الحياة لكنهم يتبرمون منها، رضا الناس غاية لا تدرك.. وزحامهم في الحياة هو الذي جعلها أكثر ضيقاً. ومن شعرنا الشعبي البليغ قول سرور الأطرش وقد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيباً: الاوا وجودي وجد عود على الصبا تذكر لعجات الشباب وشاب يهوم المراجل باغي مثل ما مضى ينوض ويونس بالعظام عياب أنا اليوم يا حمّاد ربعي تفرقوا كما ملحٍ أمسى بالغدير وذاب أنا اليوم ما تقوى عظامي تقلني كما السيف يومى به بغير قضاب فقد برع في تصوير وهن جسده وعظمه، وموت أصدقائه ورفاق دربه، وهمه بالمراجل لكن عظامه (تتراول) وأخيراً لا تستطيع عظامه حتى حمله فهو - أي نفسه - كالسيف ولكنه بدون ممسك! وقول محمد العبدالله القاضي: وعمر الفتى نوارة قد تعرضت للآفات والاسباب قصاف الاجال والناس مثل الما قراحٍ ومالح وكدرٍ وبه صافٍ على الكبد وزلال صور عمر الشاب بالزهرة سريعة الذبول معرضة لعدد من الآفات.. وذكر ان الناس فيهم اختلاف شاسع بعضهم كالماء العذب وبعضهم ماء مالح هماج!.