هذا العالم العربي عجيب غريب.. ماضيه أفضل كثيراً من حاضره.. وكل شعوب العالم الثالث خرجت من ماض متخلّف إلى حاضر طموح.. نحن هنا أيضاً خرجنا من ماضي بداوة ومحدودية قرى صغيرة إلى واقع اقتصادي وتنموي وتعدّد علمي عبر الجامعات حقّق تقدماً على دول أخرى.. أذكر قبل أربعين عاماً على الأقل حين أذهب إلى لبنان، وأنا لم ارتفع إلى مستوى الوظيفة وكانت أختي - رحمها الله - موجودة هناك لأسباب صحية، أذكر أنني كنت تماماً كمَنْ تضع ستاراً على عينيه ثم تخطفه ثم تزيح الستار فتملأ عيونه امتدادات الاخضرار، امتدادات المقاهي، ازدحام الشوارع بالأنيقين والجميلات، تعدّد مواقع بيع الصحف في الشارع الواحد.. صالون الحلاقة أشبه بمقهى فندق خمس نجوم وعندنا وقتها كان الحلاق يضع رأسك بين مرفقيه لئلا يتحرك فيجرحك الموس الحاد في يده، والله أعلم كيف تخرج أطراف الرأس.. كان لبنان امتداداً أمنياً مذهلاً.. فأنت تسهر في بيروت ثم تذهب بعد منتصف الليل إلى بحمدون أو عالية ولا تجد أي قلق أمني يزعجك في طريقك.. بل تصل إلى عالية فيخيّل إليك أن شوارعها الرئيسية لا تنام لكثرة وجود الناس ووجود المقاهي وتعدّد ارتفاع أصوات الأغاني في أكثر من مكان.. تعال إلى العراق.. أذكر وكنت طالباً في بداية المرحلة المتوسطة أنه كان يشدّني برنامج تقدمه إذاعة بغداد بعد المغرب مباشرة وتثيرني فيه عبارة تتكرّر حين يقول المذيع وهو يستعرض أسعار المواد الغذائية: «رز عنبر مهبّش أول باب» ثم يكرر على ثاني وثالث باب، ولم أفهم ما تعنيه «مهبّش» إلا منذ يومين.. حيث قال لي صديق عراقي إنها تعني «خلوّه من القشْر».. كان العراق غنياً للغاية فإلى جانب بتروله كان هناك تعدّد حاصلاته الزراعية وتعدّد مواقعه السياحية شمالاً، ولم يكن الأكراد غرباء بل مواطنين ولا الشيعة منافسين للسنّة بل كانت هناك فئات دينية طقوسها غريبة للغاية.. ومع ذلك فقد كانت آمنة وهادئة ونظام المرتبات وحقوق الآخرين ومشاريع التطوير لم تتوفر حتى الآن في أي نظام جمهوري عربي.. اسأل البدوي السعودي ما الذي كان يعنيه قبل خمسين عاماً حين يشاهد صديقه منظراً خلاباً وجاذباً فيقول عنه «كنّه» أي «كأنه» شايف مناير مصر...»، نعم كانت في مصر مناير ثقافة وفن وغسل للشوارع بالصابون وقدرات اقتصادية..