في عشرينيات إلى ثلاثينيات القرن الهجري الماضي كان الشاعر "عويد المرجان" يعمل حرفياً (بناء في قصر "ابن مهنا") بالأسياح، وهو أحد القصور الطينية الصامدة حتى اليوم؛ فمر به صديقه الشاعر "إبراهيم الأصقه" -رحمهما الله-، وخط برجله على الأرض موقعاً مجاوراً وقريباً من منزل عشيقته، وقال لصديقه إنه سيقيم عليه منزلاً ملاصقاً لمنزلها لن يكلفه إلاّ أن يخط برجله ماشاء من الأرض، وفي أي اتجاه يحدد بعد ذلك أركانها الأربع بقطع من الأحجار أو المراسيم، ثم يمضي في انتظار زوال مواسم الأمطار، حتى يبدأ بناؤها لكنه قبل أن يغادر المكان كتب معبراً عما يختلج فؤاده بيتين من الشعر، طافا أرجاء الدنيا، وتناقل القصيدتين "خصوصاً الرد" المتذوقون حتى يومنا هذا؛ رغم أن القصيدتين لم تكتبا إطلاقاً، بل نُقلت مشافهة، وكان الأصقه يُشهد من خلالهما صديقه "عويد" بوضع يده على هذه الأرض الغالية لديه بغلا من يجاورها، وهما بيتان تم اللجوء لهما بعد تسعين عاماً كما قيل لي لإثبات ملكية قطعة الأرض حينما قال إبراهيم الأصقه: يا عويّد أشهد لي على خطة الدار باغٍ ليا جا القيظ أشيّد ابناها نبي نقاصر صاحبي ظبي الاقفار غطروفةٍ بالبيت تقصر اخطاها الشاعر "عويد المرجان" وهو أحد الموالي الظرفاء والذي يعرف إمكانيات ونوايا صديقه رد عليه متهكماً: عزالله أنك قست دارٍ بلا جدار خطيت دارك والهوى لك بناها خطيت دارٍ يا فتى الجود تعبار ما تاصل العقبان فرجة غماها أغديك عن بني الطواريق تختار تفتك من لبنه وطينه وماها ما كل نزالٍ على الدرب صبار كم واحدٍ لأطناب بيته طواها وقبل أن ينهي قصيدته لجأ إلى استخدام نوع من الخُبث اللطيف والمحبب لدى الشعراء عندما عاد لاستكمال وصف محبوبة صديقه، مفنداً بعض مفاتن الجمال التي سُكت عنها بلغة عصرهم، حتى يوقد داخله نار الغرام ثم يذكره من خلال البيت الأخير بالمطلب المستحيل على طريقة مثلهم السائد آنذاك (اذا شفته وجعان أوط في بطنه) أثناء ما قال: الصدر يا شاشٍ تولاه عطار الدرة اللي رابح من شراها الراس لكنّه سبيب أشقرٍ غار مع حاكم كل المراجل خذاها والرجل رجل اللي وطت غب الأمطار استدرجت للفرخ ثمٍ تلاها تراه للي كد شقوله بالاشوار وانا ومثلك ما لحقنا شقاها «يادار وين اللي بك العام نزّال..» تلاصق مادي وروحي للبيوت لدرجة أنك تسمع «سوالف جيرانك» و«هواشهم».. و«البزارين» يتخاطفون قدامك تخطيط القرى ما يهمنا في هذه المقدمة هو طريقة تخطيط القرى والأحياء السائد آنذاك، حيث لا مخططات تنظيمية، ولا مناسيب هندسية، ولا حتى نظام تملك موثق أو تراخيص بناء معتمدة، وكل ما في الأمر أن يكون هناك مسجد جامع هو محور القرية, يتمدد حوله البناء على طريقة (من سبق لبق)، وهذا يعني أن تذرع برجلك ما تشاء من الأرض وفي المكان الذي يروق لك، ثم تثبت مراسيم من الأحجار في الزوايا الأربع تشهد عليها شاهدين، وبذلك تكون قد ملكت الأرض بطريقة وضع اليد, وفي حال رغبتك قبل الشروع في البناء الانتقال إلى حارة أو جيران أفضل فلن يكلفك الأمر إلاّ أن تقتلع "مراسيمك" تلك وتنقلها إلى الموقع المختار وتثبتها هناك. الشعر يوثق ملكية منزل بعد تسعين عاماً: يا «عويّد» اشهد لي على خطة الدار باغ ليا جا القيظ أشيد بناها تشييد المنزل بعد ذلك يبدأ تشييد منزله الطيني باستخدام مواد من بيئته أساسها توفر (الطين) والخشب وسعف النخيل ثم يبحث عن (سدودية) وهم رجال يعرفون طريقة البناء بأجر زهيد، أو عن طريق الفزعة؛ ليكتمل بناء الحيطان ويتوقف على المرحلة الأخيرة والأكثر أهمية وهي سقف المبنى (الطمام) والذي جرت العادة أن يتعاون عليه أهل القرية أو الحي نساء ورجالاً دون مقابل، ويخصص له يوم معين يبدأ بعد صلاة الفجر في يوم عمل احتفالي يصاحبه بعض الأغاني الاستعراضية وألوان الحداء الحماسي؛ لتحفيز الجميع على المواصلة والإنجاز السريع بينما يتفرغ صاحب المنزل وأسرته لإعداد الوليمة الكبرى التي تقدم لهم شكراً وعرفاناً عند استكمال عملهم غالبا في منتصف النهار. بساطة الحياة وتقارب البيوت منحتا الجميع السعادة والقناعة بالرزق ثقافة تملك شائعة أسلوب (خط برجلك وعمّر بيتك) شكّل لدينا القاعدة التي قامت عليها العديد من القرى والهجر والأحياء "على البركة" بهويتها ونمطها المعروف والمتشابه بامتدادها دوماً نحو الشمال؛ تأكيداً لمقولة "ابن خلدون" من أن المدن والقرى في الجزيرة تتجه دائماً في نموها وامتداداتها السكانية والعمرانية إلى جهة الشمال؛ لتلقى هواء الصحراء، ومع أن البيوت متراصة ومتلاصقة لدرجة أن مزراب المطر يصب في حوش الجيران في بعض البيوت، والشوارع عبارة عن (دواعيس) مظلمة ومتعرجة، إلاّ أن تلاصق المباني كان يلبي الكثير من الاحتياجات الأمنية الضرورية، كما يحدث تقارباً أو توحداً روحياً بين الجيران الذين يسمعون أصوات بعضهم ويتواصلون من خلال أسطح مبانيهم، خصوصاً النساء التي تنزل إحداهن إلى جيرانها من خلال درج منزلهم مروراً بسطح منزلها، وقد تصوت أخرى على جارتها من وراء الجدار عندما تحتاج إلى سلفة كبريت أو ملح أو أي نواقص تحتاجها فتطلب رميها من فوق الجدار الفاصل. فضاءات متعددة ولم يغفل الآباء تلك الفضاءات الأمنية التي تترك مساحات فارغة في أماكن محددة من الحي مع أن القرية شبه مغلقة ويحاط أكثرها بأسوار حماية محكمة، ولها مدخل رئيس واحد يغلق على أهلها مع حلول كل مساء، ويفتح صباح اليوم التالي خشية غارات الغزاة واللصوص، وبذلك لا يتمكن أحد من الدخول والخروج بعد إغلاق مدخل القرية، حتى إن القادمين من أهل القرية من السفر في وقت متأخر يضطرون إلى المبيت خارج أسوارها. هذه (الوسعات) أو المساحات الفارغة والمغطاة بالروث والرماد تستخدم أيضاً كملاعب للاطفال كما تستخدم (مناخات) للأبل والقوافل القادمة والمغادرة، وتطلق من خلالها بعض الدواب من الغنم والبقر والحمير وحيوانات الحقل الأخرى والأرانب والدجاج الذي يخرج من المنازل، ويظل سارحاً مع بقية الحيوانات الأخرى إلى ما قبل غروب الشمس، وهو وقت الذروة عندما تلفظ البيوت كلما بداخلها من الرجال والنساء والأطفال الذين يخرجون لتلقي مواشيهم العائدة من المفالي وإدخالها البيوت والحظائر، والبحث عما يفقد منها، وفي هذه الوقت تظلل القرية سحابة من الغبار وتختلط أصوات المنادين عن بقرة شاردة أو دجاجة مفقودة مع ثغاء المواشي ونهيق الحمير العائدة مع أصحابها من مزارعهم ومفالي مواشيهم. بناؤون يشيدون سور القرية نهيق الحمار! قد يكون بين هؤلاء العائدين من تنطبق عليه قصة المرأة التي كان زوجها يعود مع حماره مغرب كل يوم فتسمع أولاً (نهيق الحمار) فرحاً ب"العلف" كلما وصل باب المنزل، وكان الزوج في قمة عافيته ونشاطه؛ فتقول المرأة لأبنائها كلما سمعت نهيق الحمار (افتحوا الباب جاء أبوكم)، ولكنها بعدما كبر الزوج وخارت قواه كانت كلما سمعت نهيق الحمارالعائد مع الزوج المنهك قالت لهم (افتحوا الباب جاء الحمار)!. في تلك الفترة لا يوجد هناك أي وجود لأي عامل أجنبي، وكانت المباني بما فيها المنشآت والقصور الحكومية تبنى بواسطة (السدودية) و (الحرفية) -أي العمال السعوديين-، وكانت المدن الكبيرة ومنها مدينة الرياض تشهد قدوم أعداد كبيرة من شباب القرى والبوادي من جميع أنحاء البلاد، وينضمون إلى بعض أقاربهم ومعارفهم من السدودية بالأجر اليومي الذي قفز في عام 1370ه إلى ريال واحد للحرفي أو العامل، وثلاثة ريالات "للأستاد" -أي المعلم- في اليوم الواحد. مغريات الأجور وقد أغرى هذا الارتفاع بعض الحرفية الصغار إلى الانشقاق عن معلميهم مدعين أنهم سدودية للظفر بيومية الثلاثة ريالات، وأطلق على بعضهم في أوساط المجتمع بجماعة أوقوم (أرفد الجدار) كناية إلى رداءة عملهم، وكان لتلك المقولة حكاية طريفة بطلها اثنان من الحرفية ادعوا أمام أحد الميسورين أنهم معلمون كبار، واتفقوا معه على بناء أحد جدران بستانه بالرياض، فشرعوا فيه منذ الصباح الباكر، وعندما أوشك على الانتهاء في مساء اليوم نفسه مال الجدار الذي كان بناؤه سيئاً، وأوشك على السقوط فركض اليه أحدهم (ليرفده) -أي يسنده بظهره- بينما ركض الآخر إلى صاحب الجدار يطلب تسديد السبعة أريل قيمة البناء، فما كان منه إلاّ أن أطل على الجدار من بعيد حينما رآه قائماً ليسدد المبلغ، ثم يسمع بعد قليل دوي سقوط الجدار الذي تركه العامل وركض ليقتسم مع صاحبه الأجرة، وشاعت بعد ذلك تلك القصة لطرافتها، حيث كان كل أهل قرية أو مدينة يحاولون إسقاطها على أهل قرية أو مدينة مجاورة في إطار التراشق الأخوي الذي ينشأ عادة بين الجيران. شوارع غير مهيئة مع بداية انتشار السيارات ظهرت لنا مشكلة الشوارع الضيقة التي أطلق عليها بعد ذلك (شوارع الحمير) -أي انها مصممة لتمرير جمل أو حمار بحملهما- ولم توضع السيارة في الحسبان. ويتذكر أهالي مدينة بريدة قصة قدوم جلالة الملك سعود -رحمه الله- لافتتاح الجامع الكبير في المدينة عام 1379ه مع سائقه الملقب بالذيب، والذي حاول أن يدفع بالسيارة عبر أحد الشوارع الضيقة واستمر إلى أن حصلت الكارثة وانحشرت سيارة الملك بين جدارين، والملك بداخلها، ما استدعى الجماهير المحتشدة لاستقباله إلى الاندفاع لإنقاذ الموقف، وانقسموا إلى فريقين؛ فريق يدفعها إلى الخلف والآخر إلى الأمام إلى أن تغلب أحد الفريقين بعد لجوئهم إلى كحت واجهات الجدران وخرجت السيارة وخرج الضيف الكبير الذي كان غارقاً في الضحك. فنون معمارية حسب مقاييس الزمن الجميل الحمار وسيلة نقل مواد البناء