فيما مضى كانت ثقافة «فتل الشوارب» و»طق الصدر» تسود في مختلف أوساطنا، وتحمل في مضامينها الكثير من معاني التضامن والتكافل والكرم، ونبل المواقف. كانت ضرباً من «الفزعة» التي يغذيها شعار «الناس للناس، والكل بالله»، فلا أحد يقبل أن يرى الآخر في مأزق دون أن يمد له يد العون، وكانت إشارة «طق الصدر» تعني للناس الشيء الكثير، وكثيراً ما «طق» البعض صدره مأخوذاً بنشوة الشهامة، ومضى في التزامه إلى النهاية رغم علمه بصعوبة العواقب، لكن طرفي المعادلة كانا محكومين بميثاق شرف يجعل منهما رهينة لهذا الالتزام، فهذا «يطق صدره» ليكون كفيلاً غارماً لمفلس، وذاك يفعل الشيء نفسه ليحقق له غاية بعيدة المنال بالنسبة له.. لكن مع هذا كان الناس يفون بعهودهم هذه التي تقترب من مرتبة اليمين ب»طق الصدر» أو «فتل الشنب». اليوم لم تعد هذه الثقافة حاضرة في الفعل الاجتماعي العام، أو لعلها توارت أو اختفت بحيث أصبحت تعد من نوادر الأفعال، والسؤال: ما الذي أخفاها، ودفع بها إلى المقاعد الخلفية في صالون القيم الاجتماعية التي كان الناس يفاخرون بها على أنها صورة من صور شهامتهم ونبلهم، وحبهم لبعضهم؟. ضعف نوازع الوفاء لو سألنا الشريحة الأكبر من الناس عن سر غياب أو تقلص هذه الثقافة.. لأجابوا على الفور: إن معايير الوفاء عند الكثيرين هو السبب، وكثيرا ما سمعنا: (يا آخي الناس ما عاد يوفون)، لكن البعض يحيل المسألة إلى أن السر يكمن في تبدل الأحوال، وفي أدوات العصر ولغاته.. ففي السابق كان «طق الصدر» يتم بين رجال مقابل رجال، وغالباً في أمور الكفالات، لكن الطرف الثالث في الكفالة هو شريك في هذه الثقافة، نعني الطرف الدائن مثلاً أو صاحب الطلب؛ لذلك هو كثيراً ما يقدم شيئاً من التسامح أو حتى بعض التنازلات عندما يواجه أي تعثّر في تحصيل حقه..أما اليوم فالطرف الثالث غالباً ما سيكون مؤسسة مالية أو تجارية لديها جيوش من المحامين والمحصلين الذين لا يعرفون معنى (يمه ارحميني)، فضلاً عن أن العقود لم تعد مجرد كلمة شرف، وإنما تحولت إلى عدد من الاستمارات المكتوبة ببنط أبيض لا يكاد يرى بالعين المجردة إلاّ عند الاستيفاء، وحزمة من التواقيع التي تئن لها السبابة والإبهام، والشروط الجزائية التي تستطيع أن تخنق جبلاً لا أن ترعب إنساناً وحسب؛ لهذا أصبح المرء يضرب ألف حساب قبل أن يفكر في أن «يطق صدره» لأحد، أو «يفتل شاربه» له حول أمر معين.. علماً أن موضة الشوارب المعقوفة قد طالها عبث الموضة حتى حُفت، ولم يعد لها ممسكاً لتفتل!. ترتقي إلى مرتبة «اليمين» لكن «الناس ما عاد يوفون» ويولون الأدبار ويتركون صدورهم عارية أما الذين «يطقون صدورهم» ليسمعوا جملة (حي فاله) ثم يولون الأدبار.. فهؤلاء خارج الحساب أصلاً ولا قيمة لهم أساساً في هذه الثقافة.. لأنهم طلاب صيت ليس أكثر، حتى ولو كان صيتاً زائفاً أو مؤقتاً.. وهذا لا يلغي إصرار البعض من النبلاء في الحفاظ على قيم هذه الثقافة، رغم كل ما أصابهم من مآسيها في هذا الزمن.. لكنهم مجرد بعض.. فيما نحن نتحدث عن ثقافة كل.. كانت لها كل السيادة ذات يوم. شاب «يطق صدره» التزاماً أمام الآخر بالوفاء بوعده «عدسة-صالح الجميعة» ثقافة الأقساط ثقافة الأقساط التي زج بها اقتصاد السوق المفتوح، وأشاعها وأتاحها بين الناس ويسرها بصيغ عدة من التأجير المنتهي بالتمليك، و»التقسيط المريح!»؛ لشراء أكبر وأصغر سلع الضروريات والكماليات بكل وسائل الإغراء.. هذه الثقافة دفعت الناس لاستسهال عملية الكفالة التي تعد الباب الأول ل»طقة الصدر»، مما جعل «طقة الصدر» لهؤلاء المندفعين خلف المغريات أضر من التفكير بالنزول من الدور الأخير في «برج المملكة» بمظلة شمس، أمام كثرة الطلب وقلة العرض مع تلك المفزعات.. حتى اضطر كل واحد أن يدجج نفسه بجملة من الأعذار والذرائع كل صباح قبل أن يغادر منزله خوفاً من أن يهبط عليه من يستحي منه، ويورطه ب»طقة صدر» غير محمودة العواقب، كأن يدّعي أنه قد كفل خمسة أشخاص قبله، أو أنه سبق وأن حلف بأغلظ الأيمان ألاّ يكفل أحداً ولو كان أباه؛ لأنه تجرع الأمرين من كفالات سابقة.. أو أنه (حالف بالطلاق)، وغيرها من الأعذار والذرائع التي ماعادت تنطلي على طلاب الكفالة.. الذين قد لا يخفون تذمرهم منها وهم يزفرون باحتقار: «يا حيف على الرجاجيل!».. لكن هؤلاء الرجاجيل يعرفون أن «قبيلهم» ما عاد ذلك الشيخ ذو اللحية البيضاء الذي يفتح دكاناً فارغاً إلاّ من (صندوق تجوري) و (دفتر أستاد مديونيات) والذي يمضي سحابة نهاره، وهو يبحلق فيه من وراء نظارته الطبية المقعرة.. ذلك الشيخ الذي يمكن ببعض الحيل الصغيرة، مع قبلة على الجبين.. جره للاستمهال إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وإنما «القبيل» الآن بنك يسومه العذاب بالملاحقات والاتصالات حتى ينغص عليه عيشه إلى أن يسدد عن مكفوله أو....!. إذن هذه الثقافة.. هي الأخرى لعبت دوراً في تغييب طيبة الذكر «طقة الصدر»، وجعلتها من ذكريات الماضي التي (تدق في عالم النسيان)!. «حكة علباء»! في هذا الإطار الاقتصادي والاجتماعي الجديد لم يعد هنالك مكاناً ملائماً فيما يبدو ل»طقة الصدر».. فقررت أن ترتدي أسمائها القديمة وتنصرف إلى خانة الذكريات.. مثل كريم أفزعته جفوة الوجوه وبرودة المكان لتتحول إلى النقيض.. إلى «حكة علباء» تحمل كل معاني الحرج والهزيمة، وهو أمر طبيعي في ظل عصر مختلف.. وثقافة مختلفة.