«دفاتر المديونيات» هي أقرب وأفضل الحلول المؤقتة للكثير من أرباب الأسر، والتي تبحث عن مخرج أزماتها المادية المتكررة عند نهاية كل شهر، حيث يُجبر العديد منهم إلى الاستدانة من محلات التموينات الغذائية أو الصيدليات والمطاعم، حتى موعد صرف الراتب، ثم تسديدها أو جزء منها، ليعودوا و»يستدينوا» من جديد، وهكذا يبقى الحال، وكأنهم في دائرة مغلقة تجعلهم لا يستغنون عن «دفتر المديونية». من هنا جاء السؤال عن أسباب لجوء الكثير من المواطنين لفتح حساب ل»السلف المؤقت»، هل هو لعدم حسن التعامل مع ميزانية الأسرة؟، أم هي متطلبات الحياة التي تزيد مع مرور الأيام؟. رب الأسرة يفاجأ ب«قائمة ديون طويلة» هو في غنى عنها لو رتب ميزانية المصروفات جيداً توزيع الراتب تقول "أم عبدالرحمن": بمجرد استلام الراتب نقوم على الفور بتوزيعه على "بقالة الحي" ومحل الخضار ومحل توزيع المياه، إلى جانب الصيدلية، مضيفةً أنهم يكونون حتى نهاية الشهر تحت رحمة هذه المحلات، على الرغم أننا نحرص على شراء الضروريات من أسواق الجملة، ذاكرةً أنهم يفتحون حساب الاستدانة بدايةً ل"الخبز" و"الحليب"، وتدريجياً نضيف بعض الكماليات ك"المشروبات الغازية" والحلوى، موضحةً أنهم يتفاجؤون في آخر الشهر بأن الحساب تجاوز سقف (2000) ريال، حتى نكاد نشك بذمة البائع، إلاّ أننا في النهاية نتحمل المسؤولية، لأننا فضلنا "الكماليات" على "الأساسيات". فتح حساب ويشير "ماجد" الى أن ذلك فتح الباب أمام مساعدة الناس في تلبية مطالب أسرهم اليومية، فالوضع المادي لكثير منهم لا يسمح بدفع المال مباشرةً، وهذا ما أدى إلى شيوع ثقافة "فتح حساب" لدى "البقالات"، ذاكراً أن الظروف الاقتصادية الصعبة هي من أجبر الكثير من الأسر المتوسطة الحال أن تبحث عن تلك المحلات، حتى وهم يعلمون فرق الأسعار بين "البقالات و"السوبر ماركت" على سبيل المثال، مشيراً إلى أنه لا يجد حلاً إلا محاولة معايشة الأسرة للواقع بما هو متوفر لديها من إمكانيات، وأن لا تلجأ الى الديون في حال عدم وجود المال، أو أن تستدين ما تحتاجه فقط، شرط أن لا يفوق مبلغ الدين مرتب رب الأسرة، وأن لا تتعامل مع مسألة الديون باللامبالاة؛ خوفاً من أن يصبح الأب مطالباً من جهات عديدة، إذ لا يكفي مرتبه البسيط الذي يتقاضاه شهرياً، لحل كل هذه الديون، فيجد نفسه في "ورطة"، لاسيما وأن كل دائن يريد حقه بمجرد حلول موعد صرف المرتبات. ضغوط نفسية ويرى المواطن "محمد الشامان" أن غلاء الأسعار ساهم في تفاقم المشاكل المادية عند الأسر متوسطة الدخل، لتزيد هذه المعاناة من حجم الضغوط النفسية والاجتماعية، حيث يصل الضغط النفسي ذروته حين يجد رب الأسرة نفسه عاجزاً أمام طلبات الأبناء، في ظل إغراءات الشراء؛ بسبب الدعاية التي تعمل على "قدم وساق"، حتى أصبحت متطلبات الأسرة اليوم من الناحية المالية أكبر من إيراداتها، فلا يعرف الزوجان ماذا يفعلان؟، وهما في الوقت نفسه لا يستطيعان تقليص المصروفات، أو زيادة الدخل، فتصبح الاستدانة هي الحل الوحيد، مضيفاً أنه "عوّد" أسرته على أن تلجأ إلى الاستدانة من البقالة، بشرط أن لا يتعدوا الحد الذي وضعه ل"الدّين". على البركة ويضيف "أبو مازن": "نحن نعيش على البركة، نملك دخلا كبيرا، لكن لا نُجيد صرفه بطريقة سليمة تؤمن لنا حياة مستقبلية أفضل"، مبيناً أنه مهما حاول أن يقتصد في متطلبات الحياة يفسد التخطيط، مضيفاً: "في آخر الشهر دائماً أجد نفسي مطالباً بديون كثيرة ليس باستطاعتي تسديدها جميعاً؛ لأنها تكون قدر مرتبي مرتين، فأمارس التهرب من هذا وذاك، ومنهم من يلاحقني ويصل حتى إلى البيت، وعندما يضايقوني أرحل إلى منزل أسرتي الكبير، وأقول لأولادي: إن سألكم عني أحد قولوا: مسافر!، حتى إن أحدهم قال لأبنائي: دائماً هو مسافر آخر كل شهر!"، مشيراً إلى أن راتبه (8000) ريال، ولديه أقساط للبنك وإيجار للمنزل والباقي يتم توزيعه على "دفاتر الديون"!. فضل البوعينين فشل في الموازنة وتقول "أم مصعب": زوجي ليس له دخل محدد، عمله أرباح طويلة المدى ولا نستطيع انتظارها، لذلك نقوم بالاستدانة من أكثر من محل؛ لتوفير احتياجاتنا خلال ثلاثة أشهر أو أربعة، مضيفةً أنه لا يأتي المبلغ المنتظر إلا وقد استدنا أضعافه، وقد حاولنا ضبط صرفنا لنضع توازنا بين ما نكسبه من مال وما نستدينه، لكننا نتفأجا كل يوم بالجديد من قائمة الطلبات التي لا تنتهي، مشيرةً إلى أنها كثيراً ما تلجأ ل"السلف" إرضاء لأبنائها، حيث تقول: لا أريد أن يشعر أبنائي بأنهم أقل من غيرهم، فأسعي أنا ووالدهم للاستدانة، وكثيراً ما حاولت أن أُوازن بين ميزانية الأسرة وبين طلباتهم، ولكني فشلت، فمتطلبات الحياة أصعب مما كنا نتوقع!. دور الزوجة وتؤكد "رضوى الزهراني" على أن الزوجة لها دور كبير في استقرار ميزانية الأسرة، خاصةً مع غلاء الأسعار، فأنا أحدد ميزانيتي وفق راتب زوجي حتى لا أضغط عليه، فالحياة كما يقول كِبارنا: "ليست بما نريد، وإنما بما نجد"، موضحةً أن الزوجة إذا اعتادت هذا الأسلوب فلن يضطر زوجها إلى الاستدانة، مبينةً أن أكثر ما يضطرها للاعتذار عن حضور المناسبات الاجتماعية هي "قلة الحيلة"، فأنا أرفض مبدأ الاستدانة لمجرد تقديم الهدايا أو شراء الملابس الجديدة. معادلة مستحيلة وتقول "فدوى" -معلمة-: الجميع يطمح بوضع مادي أفضل، ولكن مقولة: "إصرف ما في الجيب، يأتيك مافي الغيب"، تشكي حال الجميع، فعندما ترجح كفة الكماليات على الأساسيات الضرورية، تصبح المعادلة مستحيلة، مع اقتصاد متدهور وميزانية ينقصها التخطيط المسبق، مضيفةً أن الحل بالالتزام بالتخطيط، والابتعاد عن مغريات الكماليات، مع وضع الدفع المقدم لجميع الاحتياجات الضرورية خلال الشهر وعدم تأجيله، لافتةً إلى أنها تسعى كثيراً إلى إرضاء أبنائها ومع ذلك فإنها غالباً لا تستطيع تلبية رغباتهم، في محاولة منها إلى توفير ما يكفي من الراتب إلى آخر الشهر. مطالب لا تنتهي ورغم أن منيره تتقاضى ما يقارب (8000) ريال، وزوجها (10) آلاف ريال، إلاّ أنها لم تسلم من الدين، حيث تقول: لدينا أربعة من الأبناء وخمس من البنات، مطالبهم لا تنتهي مهما حاولنا توفيرها، بالإضافة إلى الأقساط طويلة المدى، والتي تأخذ نصف مرتباتنا، مضيفةً أن كل من حولنا يستغرب كثيراً من عدم امتلاكنا لمنزل رغم أن كلينا موظف؛ والسبب أن لدينا أكثر من حساب في "السوبر ماركت" والصيدلية ومحل توزيع المياه وأحد المطاعم، مشيرةً إلى أن الراتب يأتي من هنا ليوزع ويقسم من الجهة الأخرى، فلا غرابة أن قلت إنه بعد ثمانية أيام فقط من استلام المرتب نبدأ بالاستدانة!. شراء بالجُملة وتضيف "هدى" قائلةً: لا أحبذ فتح حسابات لدى المحال التجارية؛ لأن ذلك باب يصعب غلقه، حيث يتمادى الكبار والصغار في أخذ احتياجات غير ضرورية ظنا منهم أنه مبلغ صغير يسهل سداده، ولكن ما أن يحل آخر الشهر حتى يتفاجأ الجميع بالمبلغ الكبير، مضيفةً أنها تفضل شراء حاجيات المنزل الضرورية ب"الجُملة"، وكذلك شراء جميع المستلزمات الأخرى بداية الشهر، وهو ما يُعد أوفر وأسلم، مشيرةً الى أن هناك الكثير من يلجأ لفتح حساب في المحال التجارية وهو يحمل النقود؛ لأنه أعتاد على الاستدانة!. غلاء المعيشة حول هذا الموضوع تحدث الأستاذ "فضل البوعينين" -الخبير الاقتصادي والمحلل المالي- قائلاً :لا شك أن غلاء المعيشة، وتدني مستوى الدخل الحقيقي، إضافةً إلى سوء التنظيم، واستئثار المشتريات الاستهلاكية على جُل الراتب، أدوا مجتمعين إلى تفشي ظاهرة اعتماد الكثير من المواطنين على المديونية الشهرية من محلات المواد الغذائية، والمتاجر الصغيرة التي تسمح ببيع سلعها بالدين المحدد سداده بنهاية الشهر، وهو موعد استلام الراتب، مشيراً الى أن هناك الكثير من الأسر تعاني من عدم توافق دخلها الشهري مع احتياجاتها الأساسية، خاصةً وأن متوسط عدد أفراد الأسر في المملكة مرتفع، مقارنة بالمجتمعات الأخرى. لا يُجدي نفعاً وأضاف أن الحديث عن ترتيب الأولويات، وتنظيم المصروفات، وخفض الإنفاق الاستهلاكي قد لا يجدي نفعاً مع أولئك الذين يقل دخلهم الشهري عن توفير مشترياتهم الأساسية، وإذا ما أضفنا إلى ذلك المصاريف الثابتة مثل الكهرباء والهاتف والإيجار الشهري، لافتاً الى أن تحمل الديون أمر مؤلم، وعدم قدرة رب الأسرة على توفير حاجات أفراد أسرته الضرورية، أكثر إيلاماً، مؤكداً على أن أكثر المديونين لم يقدموا على ذلك لولا الحاجة الماسة، وأستثني بعض المدمنين على الإستدانة لأسباب غير مقبولة البتة، ذاكراً أن مديونية المشتريات تتسبب في الضغط النفسي على رب الأسرة، وقد تتسبب في الإيذاء النفسي للأطفال الذين يقومون بالشراء بالدين نيابة عن آبائهم، وربما اكتسبوا عادات سيئة بسبب ذلك، ما يجعلها ملازمة لهم طوال حياتهم، مشيراً إلى أن ثقافة الشراء بالدين تتحول مع مرور الوقت إلى جزء من مكونات شخصية النشء، وهو ما يجب أن يتنبه له الأباء والأمهات. تقسيم الراتب وتنظيم النسل! وأكد على أن مسؤولية معالجة هذه الظاهرة تقع على أطراف متعددة؛ فالحكومة مسؤولة عن خفض تكلفة المعيشة من خلال مراقبة الأسعار، وخفض معدلات التضخم، وضبط السياسة المالية، إلى جانب إقرار البطاقة التموينية ومكافحة الفقر، وإنشاء الجمعيات التعاونية، وكذلك تفعيل دور الجمعيات الخيرية التي يعتقد أنها لا تعمل بدورها المأمول، وبالإضافة إلى تشكيل مجالس خيرية في المدن والقرى تكون مسؤولة عن تتبع أحوال الفقراء ومساعدتهم، ومساعدة الأسر المتعففة، مشيراً إلى أن رب الأسرة تقع عليه مسؤولية تنظيم المصروفات قدر المستطاع، وبدلاً من اللجوء إلى الشراء ب"الدّين" يتم تقسيم الراتب بحسب المصروفات الضرورية، وقد يكون هذا عسيراً على كثير من الأسر، إلا أنه أمر لا بد من التعامل معه، ذاكراً أن تنظيم النسل بات من أهم الضروريات في مثل هذه الظروف، فالأمر لا يتعلق بالإنفاق فحسب، بل يتجاوزه إلى نوعية السكن المتاح، وفي الغالب نحن نتحدث عن شقق سكنية يتسبب تكدس الأبناء والبنات فيها في مشاكل لا حصر لها، لذا لا بد أن يكون هناك تخطيط أمثل للأسر بما يكفل لها العيش بطمأنينة واستقرار، نعم الأرزاق بيد الله، إلا أن التخطيط الأمثل يساعد الإنسان على تجاوز الكثير من السلبيات.