طوال حرب الخليج الأولى أو تحديداً حرب صدام الأولى , تعرض الخليج إلى تلوث طائفي مرعب ,غمامة سوداء خانقة هيمنت على الخطاب الديني بصورة تلاشت معها جميع قيم التسامح والتعايش والتحضر المدني , وملوثات تلك المرحلة خالطت وعينا وعلاقتنا ووطنيتنا بشكل مستفز. وكان هناك نبشٌ منظم في قبور الفتن التاريخية بحثاً عن جميع أدبيات الصراع العثماني - الصفوي (السني - الشيعي) لتذكي جذوة الفتنة , وهو بالتأكيد الصراع السياسي الذي كان يحاول كالعادة أن يرسخ شرعيته عبر التترس المذهبي . وتكسرت النصال على النصال، وظل التنقيب مستمرا وصولا إلى جذور الفتنة مابين مصلّ خلف علي رضي الله عنه , ومحارب مع معاوية رضي الله عنه , وقتها كانت تلك البيئة المتشنجة المحتقنة بيئة مثالية للخطاب المتشدد العنيف العنصري الذي يستقطب الاتباع والمريدين عبر التحزب خلف المقولات التي تخطّئ الآخر وتحشد الاتباع . لكن تلك المرحلة المعتمة الخانقة التي مرت على المنطقة نهض في وجهها مشروع الحوار الوطني وبدأ يعالج أقفالها ويفكك مسلّماتها ، وتكاتف الشيخ والسيد على طاولات الحوار, وبتنا نزهو بالعمائم الشيعية تستدير معنا ونحن نقلب دفاتر هموم الوطن , وحظينا بطروحات الشيخ الصفار وفكره المستنير، وتداولنا مؤلفاته ذات القيمة الفكرية العميقة , وايضا سماحة السيد النمر ,وسواهما من رجال الدين الشيعة الذين نتشارك وإياهم هذا المكان منذ آلاف السنين , أيضا في جلسات الحوار الوطني تعرّفنا على بعض المورقات الوارفات المزهرات من بنات الوطن اللواتي ينتمين إلى الطائفة الإسماعلية في نجران , فكنا نتساقى حب الوطن ووحدة المصير والحلم الذي نغزله بخيوط الضوء ورؤية خادم الحرمين الاصلاحية عن مفهوم الوطنية . ونهض مفهوم الحوار وأدواته وأبعاده في وجه الفكر المذهبي المستحث للفتنة والطائفية، المجرح والخادش للحمة الوطن بمناجل الفتنة والعصبية والفكر المغلق ,واتسعت الآفاق وتراحبت وبدأت التصنيفات تنكمش وتتوارى ليحل بدلًا منها مطالب واعية بترسيخ مفهوم الوطنية والدولة المدنية باستقلالية السلطات فيها , الدولة الساعية باتجاه العدالة ومؤسسات المجتمع المدني التي يشارك بها جميع أطياف الوطن.. بالطبع لم تكن الصورة بهذه الوردية فقد كان هناك الكثير من المقاومة والرفض من قبل أصحاب الفكر الأحادي الضيق من كلا الطرفين , وكان هذا الفكر يحاول أن يقتنص التوتر السياسي في الخليج ليقفز من خلاله باتجاه بث خطاب عنصري ممذهب متطرف لاسيما أثناء الحرب والمناوشات مع الحوثيين في الجنوب . الآن مع تتوتر الأحداث في الخليج وتصعّدها , ومع مشاركة درع الجزيرة هناك في ضبط الأمن , يصبح المناخ شبه مثالي لاشتعال الفتنة الطائفية من جديد , وأخشى ما أخشاه أن نكتشف بأننا تقهقرنا إلى المربع الأول الذي كانت المنطقة تكابد فيه تلوثاً مذهبياً خانقاً . الخطير في هذا الأمر عندما تترك الأمور ليديرها أصحاب الخطاب المغلق يحشدون وراءهم البسطاء والعامة , والخطير أيضا أن ترتدي مطالب العدالة الاجتماعية والاصلاحات السياسية وتطوير أجهزة الدولة إلى شكلها الحديث جميع هذا عندما يحاول البعض أن يجعل تلك المطالب ترتدي رداء مذهبيا كي يتم التشويش على شرعية المطالب , ومن ثم يقع الجميع في بركة آسنة ملوثة يصعب الخروج منها , ومن الممكن أن تترك انعكاساتها على المنطقة لأجيال طويلة . نحن بحاجة إلى وقفة وطنية حاسمة وجادة أمام هذا الموضوع , فمن السهل تحوير المطالب الشعبية بالعدالة والحقوق والمساواة الاجتماعية , لتغدو شغبا وعبثا طائفيا يذهب بها ويفتتها أدراج الريح ..