ما أجمل أن نعيش بين سير الفضلاء ونستقي العبر والدروس منها. فقد سبقنا جيل من الآباء والأجداد لهم من الصفات والمواقف قلّ أن تجدها في هذا الزمن الذي تغيرت فيه وتيرة الحياة وطغت فيه الماديات والمصالح الذاتية ولم نعد نرى تلك المواقف العظيمة إلا ما ندر. ومن تلك السير العطرة سيرة الشيخ أحمد بن عبدالرحمن بن عبدالله الربيعة رحمه الله والذي فقدناه مساء الجمعة الماضي عن عمر يناهز السادسة والتسعين. فهذا الرجل الفاضل أمضى حياته في سكينة وطمأنينة وكان من أصحاب المواقف النبيلة والأخلاق الرفيعة. عاش الشيخ أحمد شبابه في المجمعة وكانت قرية صغيرة آنذاك، وتعلم القراءة والكتابة في مدرسة الشيخ أحمد بن صالح الصانع التي أسسها في عام 1336 ه. كان مولد الشيخ أحمد في نفس العام الذي تأسست فيه مدرسة الشيخ الصانع. وقد نشأ أحمد في كنف والده عبدالرحمن وهو من كبار أعيان المجمعة ومن التجار المحسنين. لم يكن هناك تعليم نظامي في المجمعة آنذك.. فاكتفى الشيخ أحمد بما تعلمه من القراءة والكتابة في مدرسة الشيخ الصانع واتجه إلى التجارة بالبيع والشراء في سوق المجمعة. كان الشيخ أحمد حريصا كل الحرص على خدمة والده حيث أمضى شبابه يسهر على شؤون والده ويخدمه بكل إخلاص وتفاني. وبعد سن الأربعين انتقل الشيخ أحمد إلى الرياض بصحبة عائلته حيث استمر في التجارة إلى أن تركها ليتفرغ لشؤونه الخاصة بعد أن كبرت به السن. وفي سكنه في حي المزرعة بمدينة الرياض كان لي معه الكثير من المواقف التي بينت لي مدى صفاء سريرة هذا الرجل ومدى حبه للخير. فقد عشت جارا له قرابة العشرين عاما حيث بدأت القصة عندما كنت أعمر بيتا لي بجواره في حي المزرعة.. فتعرف علي ثم رأى أن هناك تأخرا في البناء فعرض علي المال إن كنت بحاجة له كي اتعجل في السكنى. وقد شكرته على عرضه وبينت له عدم حاجتي للمال. وبعد سكني في منزلي زادت محبتي له لما رأيت منه من حسن الخلق والتواضع الجم. وكان رحمه الله لا يعدني إلا واحدا من أبنائه.. فكنت أزوره في منزله وأصغي إلى نصائحه. كان رحمه الله قليل الكلام لا يشتكي أبدا. وكان ينفق على المسجد وصيانته ويعمل بصمت. فكان التفطير في المسجد على نفقته لكنه لا يخبر أحدا بذلك إلا أنا بحكم مساعدتي له. وعندما يريد جماعة المسجد عمل شيء ما من أعمال الخير، يقول لهم إعملوا وأنا أكمل الباقي. فكان رحمه الله حريصا على الصدقه للقريب والبعيد.. فكان يبعثني إلى بيوت عدة لإعطائهم ما تيسر من الأرزاق والمال. وكنت لا أعتبره إلا كوالدي ، فلا أذهب لحج أو عمرة حتى أستأذن منه رحمه الله. وفي كل مرة يعطيني بعض المال للتصدق به في مكة وذلك بتفطير الصوام في رمضان أو بالإنفاق على الحجيج يوم عرفة. ومن الأعمال التي كان رحمه الله يحرص على إخفائها أنه إذا نزل الرطب يأتي بكراتين التمر يوميا للمسجد ليأكل منها العمال. ومن الأمور العظيمة في هذا الرجل أنه لا يغضب لأجل دنيا.. فلم أجده ذات يوم قد غضب على أحد. فكان يتسم رحمه الله بطيبة القلب وسعة البال والعفو عمن ظلمه. وكان حريصا على إصلاح ذات البين ودائم السؤال عن الجيران والاهتمام بهم. وحدث أن آذاه أحد الجيران فعرض عليه بقية الجيران أن يشتكي ذلك الجار لكنه رفض وقال كيف أشتكي فلانا وهو جار لي. وقد كان رحمه الله شديد الحرص على صلاة الجماعة ، فقد عرف عنه أنه يأتي للمسجد قبل الأذان بوقت ولا يخرج من المسجد إلا مع أواخر الناس. وقد كان دائما يقرأ في مصحفه ويتوقف عن القراءه عند إقامة الصلاة. ولم أره في يوم من الأيام تذمر أو تضايق بسبب تأخر الإمام أو المؤذن. وكان رحمه الله لا يشتكي حتى في شدة المرض. فكان يحتفظ بسعة باله وليونته مع ما كان يواجهه من الألم الشديد أثناء مرضه. حتى أنني كنت أقرا عليه شيئا من القرآن في شدة مرضه، فألتفت إليه فإذا عيناه تدمعان. أسأل الله العظيم أن يقدس روحه ويكتب له الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يجعل ما أصابه من مرض تكفيرا لسيئاته ورفعا لدرجاته إن ربي سميع مجيب. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.