نكمل؛... لا يمكنك حين تنغمس في البحث العلمي أن تتوقع أنك ستمشي في خط مستقيم يوصلك بأسرع طريقة من نقطة "أ" إلى نقطة "ب"، ليس لأنك تكره الخطوط المستقيمة أو لأنك تحب اللف والدوران أو لأنك تحب المماطلة، لكن في البحث العلمي لا شيء مطلقاً، ولا شيء يبدو بالسهولة التي تتصورها أو بالوضوح الذي تعتقده. فأنت مثل عالم الآثار الذي يزيح طبقات صخرية ورملية وتراكمات الزمن من قطعة أثرية تتشكل ملامحها بهدوء وروية أمام عينيه حتى تصبح واضحة بكل تاريخها ليتفحصها مرة ومرات محاولًا أن يعرف أسرارها، عمرها، حقبتها الزمينة، النقوش التي عليها وغير ذلك حتى يسمي اكتشافه اكتشافاً ويضعه على الخريطة المعرفية. أحيانا نتوقع أن العمل البحثي هو عمل منظم وواضح، وأن كل الإجابات بسهولة واحد زائد واحد يساوي اثنين. لكنك حين تقف أمام نتائج تجربة ما، تعتقد أنها واضحة وتظن أنك تملك كل المبررات التي تؤكد لك صحتها والتي تجعلك تفكر في الاستنتاج الذي يقودك لاكتشافٍ ما أو لإجابة ما، فإنك تقف بعين ناقدة لكل ما فعلته، تراجع ثم تعيد المراجعة محاولًا أن تتخلص من كل الشكوك التي تحتل عقلك، ومبتعدا عن كل الجمل التي تبدأ بماذا لو؟ وتنتهي بهل أنت متأكد؟ لذلك فإنك وحين تعلمك التجربة أن الأشياء لا تأتي بالسهولة التي تتوقعها وأن أسهل التجارب قد تأخذ وقتا أطول من تلك التي تبدو في ظاهرها معقدة فإنك تمسك ضحكتك حين يتحدث أحدهم مؤكدا أن مثل هذه التجارب العلمية الدقيقة يمكن إنهاؤها في يوم، أو أنه يطمح في أن يكون معدل إنتاجه البحثي المنشور بحثا أو بحثين في كل أسبوع أو كل شهر. فهذه الأيام قد ذهبت؛ ففي زمن مضى كان وصف حالة مرضية جديدة أو عرض مرضي يضاف للأعراض التشخيصية لمرض ما تكفي أن تحوز على اهتمام المجلات العلمية والمحكمين. لكن الآن وفي هذا الزمن ومع التقدم العلمي وتراكم المعرفة وانتقالنا لزمن المعرفة المعقدة وزيادة المنافسة لم يعد النشر في هذه المجلات العلمية بالسهولة المتوقعة. في حقبة سابقة كان أقصى ما يطمح فيه الباحثون من الدول النامية لقلة الإمكانات هو التعاون مع مجموعة بحثية في أوربا أو أمريكا ويبعثون لهم العينات ليتم دراستها ويكتفي الباحث بأن يكون اسمه مختفياً في منتصف الأسماء على بحث منشور. الآن ومع نقل التقنية ووجود الأيدي والعقول المؤهلة تغيرت موازين القوى، أصبح الاتجاه العام لمن يؤمن بأهمية البحث العلمي ولديه ثقة فيما يملكه من مقومات هو أن يتم إجراء الأبحاث العلمية الدقيقة في البلد الأم، أصبح التعاون البحثي قائما على أساس المساواة بين الباحثين من الدول النامية ومن الدول المتقدمة، لم يعد أحدهم مجرد جامع للعينات من أجل الآخر الذي يحظى بالتفوق الفكري والمادي والعملي بل أصبحوا على نفس المستوى وجهودهم متساوية كل حسب تخصصه! وفي أي تعاون بحثي، أصبحنا الآن نرى إنتاجا متقدما وطنيا ومحليا خالصا يتم قبوله في مجلات علمية عالمية محكمة، وهذا الإنتاج كما قلنا سابقا لا يأتي بسهولة ولا يحدث بين يوم وليلة..