رغم التناقض الواضح بين روسيا والغرب في تقييم الأوضاع في أوكرانيا إلا أن الأمر حسب التصورات الموضوعية وخاصة من الجانب الاقتصادي مرهون لا بتحول السلطة من فريق سياسي إلى آخر بل بمدى عزم الربان الجديد على تغيير الدفة بما لا يتناسب مع اتجاه الأشرعة التي كانت عليه حتى الآن ولتحقيق هذا الغرض لا بد من تغيير كادر السفينة طالما سيكون الاعتماد في نهاية المطاف على الرياح الخارجية من السلطة الجديدة والمعارضة الجديدة على حد سواء. وبالفعل أكد يوشينكو أن من بين أولوياته عزل وإقالة جميع محافظي الأقاليم وكبار المسؤولين. في غضون ذلك لا بد أن نلاحظ من منظور محايد أن المجال الاقتصادي الموحد الذي تركز عليه موسكو لا يشبع على المدى الاستراتيجي الحلم الأوكراني ذاك أن معظم الصناعات المعدنية والثقيلة الأوكرانية موجودة في روسيا وحتى في قازاخستان والمجال الاقتصادي الموحد سيدفع في أحسن الأحوال إلى تقاسم توزيع تصديرها وبالدرجة الأولى إلى دول التجمع التي ما زالت ترى في موسكو سندا لها . والإنتاج المعدني يشكل العمود الفقري لواردات أوكرانيا من العملة الصعبة أكثر من 40٪ وقد بدأت أوكرانيا بتوسيع تعاملها ليشمل دول الشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا بأسعار منافسة . كما ارتفع الناتج المحلي لعام 2004بنسبة 12٪ على حساب المنتوجات المعدنية تحديدا . ويمكن كمكافأة على «انتصار الديمقراطية» أن يرفع الاتحاد الأوربي من سقف الصادرات الأوكرانية من المواد المعدنية إلى سوقه ليصل إلى مليون طن ومع ذلك فإن ذلك لن يحقق سوى جزء من الأحلام الأوكرانية. ناهيك عن احتمال تعثر المشاريع الروسية الأوكرانية المشتركة الضخمة بما في ذلك صناعة الطائرات العملاقة وتوقع حدوث تراجع كبير في واردات المجمع الصناعي الحربي الأوكراني إبان الإعداد للتناسب مع النمط المتبع في الناتو تمهيدا للدخول في حلف شمال الأطلسي رغم تقديرنا بأن مثل هذا الأمر قد يجد له الناتو مخرجا آخر كتحويل هذا المجمع لمركز محوري للإنتاج الحربي المشترك «وقد سبق للناتو أن استفاد من القواعد العسكرية السوفييتية التي اضطرت موسكو للتخلي عنها في جورجيا ودول البلطيق وحولها إلى قواعد ومطارات يستفيد منها عمليا» ولكن ذلك مجرد تقدير ويحتاج تنفيذه إلى سنوات عديدة . ولم يخف يوشينكو رغبته الطموحة في إجراء تعديلات جوهرية على التوجهات الاقتصادية والتي لخصها بإعلانه انه سيسعى إلى جعل أوكرانيا دولة عظمى تجد لها مكانا في نادي الدول الصناعية الثماني الكبرى في العالم . وبما أن الاقتصاد الأوكراني لا يملك قدرات تستطيع حمل هذه الأحلام الطموحة فإن السلطة الجديدة ستتكئ على ما يمكن أن تستجلبه من استثمارات غربية وموسكو تدرك جيدا أن تدفق الاستثمارات الغربية نحو أوكرانيا لن يكون دون ثمن سياسي وعسكري أمني على المدى الاستراتيجي . ننوه هنا بأن الاستثمارات الأجنبية في أوكرانيا في الأعوام الأخيرة قاربت 7 مليارات دولار وتحتل الولاياتالمتحدة المركز الأول في هذه الاستثمارات . والوضع الاقتصادي وإن تحسن جديا في العام الأخير لكنه ما زال هشا حيث تبلغ الديون الداخلية قرابة 29٪ من الناتج المحلي وقد ارتفع التضخم على خلفية عدم الاستقرار إلى أكثر من 10٪ ووصلت الديون الخارجية إلى أكثر من 16 مليار دولار في حين لا يتجاوز الاحتياطي الذهبي والعملة الصعبة في البنك المركزي 7 مليارات دولار أنفق منها قرابة مليارين - حسب بعض المصادر - لدعم العملة الوطنية أثناء الأزمة الأخيرة وهذا يعني أن القيادة الأوكرانية ستكون مضطرة لإبداء أقصى الحماس للغرب لتحقيق هذه المطامح . من جهة ثانية لا تستطيع أوكرانيا الاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية التي تشكل عصب الحياة وخاصة الصناعية فيها وبالتالي فهي مضطرة حتى وإن لم تشأ أن تحافظ على الخيوط الرئيسية مع روسيا . ويكفي أن نذكر هنا بأن إنتاج أوكرانيا من النفط والغاز ضعيف جدا فهي تنتج 86 ألف برميل يوميا لكنها تستهلك قرابة 300 ألف برميل وانتاجها السنوي من الغاز يقل عن 19 مليار متر مكعب في حين تستهلك قرابة 75 مليار سنويا وكل هذه المفارقة تأتيها من روسيا تحديدا( حتى الغاز التركماني المخصص لأوكرانيا يتم استبداله حسب الاتفاق بالغاز الروسي وتحصل روسيا على كمية موازية من تركمانيا ، وقد أوقفت تركمانيا في الأيام الأخيرة ضخ الغاز بالاتجاه الروسي متعللة بوجود إصلاحات على خط الضخ ومن المثير تماما في هذا السياق أن الكسندر ميدفيديف عضو مجلس إدارة غاز بروم أعلن قبل أيام قليلة أن إيقاف تركمانيا ضخ غازها نحو روسيا لن يؤثر على التزامات غاز بروم تجاه أوكرانيا على أن تفي أوكرانيا بالتزاماتها الترانزيتية لإيصال الغاز الروسي إلى أوروبا ثم عادت مصادر غاز بروم لتعلن أن الوضع القلق للغاز ووقف تركمانيا لضخ غازها باتجاه روسيا لن يسمحا لغاز بروم الروسية بتزويد أوكرانيا بالغاز الطبيعي » . كل ذلك يجعل التفكير بالقطيعة مع روسيا أمرا مرعبا لمستقبل أوكرانيا ونشوء إشكالات جدية بالنسبة لوصول مصادر الطاقة الروسية إلى أوروبا - نشير هنا إلى أن أزمة الديون على أوكرانيا لتسديد ثمن استهلاكها من الغاز والنفط الروسيين أدى إلى قطع حصة أوكرانيا وسبب أزمات حقيقية حيث كانت أوكرانيا تسحب لتغطية احتياجياتها من الحصص الموجهة لأوروبا عبر أراضيها . ولا بد أن نلاحظ هنا أن الغرب يفهم هذه الحقيقة جيدا ويفهم كذلك أن تعكير صفو العلاقات بين كييف وموسكو ليس في صالحه أيضا باعتبار أن روسيا مصدر رئيسي لمصادر الطاقة بالنسبة لأوروبا وأن هذه المصادر تمر عبر الأراضي الأوكرانية ناهيك عن مشاريع بالغة الأهمية بما في ذلك المشروع الضخم لضخ النفط الروسي إلى القرم بحيث يتجاوز البوسفور التركي والمسمى بمشروع برودي أوديسا. كل ما هنالك - كما يبدو - أن الغرب يريد منذ الآن أن تلتزم موسكو بقواعد اللعبة التي يفرضها هو أمنيا وسياسيا واقتصاديا . وهكذا يظهر في الأفق طريق ثالث ما زال ملفعا بالضباب عبر عنه الرئيس بوتن بكثير من الحذق والصبر عندما رحب بإمكانية دخول أوكرانيا في الاتحاد الأوربي منوها بأن ذلك يمكن أن ينعكس إيجابيا على الاقتصاد الروسي نتيجة الترابط الكبير بين اقتصاد البلدين .. ولكن هذا التصريح جاء قبل أن تحسم الأمور تماما في الصراع على كرسي الرئاسة وبعد أن رجحت بوضوح كفة يوشينكو عاد في مؤتمره الصحفي ليوضح أن على أوكراينا أن تفكر بشكل واقعي وأن دخولها إلى الاتحاد الأوروبي غير وارد على المدى المنظور. وهكذا فإن الطريق الثالث يتلخص في محاولة إيجاد معادل أشمل يتضمن تكريس المجال الاقتصادي الموحد للدول الأربع وبنفس الوقت فتح المجال لأوكرانيا لتحقيق ما يمكن تحقيقه في التعاون مع السوق الغربية وجعلها - على العكس من التوقعات المتشائمة- جسرا للتواصل بين المجال الاقتصادي الموحد وسوق الاتحاد الأوربي على أن السير لتحقيق مثل هذه الاحتمالات سيضطر موسكو لدخول الحلبة وفق قواعد اللعبة الغربية . ولم يكن صدفة أن يركز يوشينكو على أن أول زيارة خارجية له ستكون إلى موسكو وأن العلاقات على العكس من تصورات البعض ستكون أفضل من السابق ، وهذا يعمق الاحتمال الذي تناولناه كطريق ثالثة.. أخيرا لا بد من ملاحظة أمر بالغ الحساسية والأهمية يمكن أن يلعب دورا معاكسا تماما لما توقعه معظم المحللين . صحيح أن التلويح بانفصال المناطق الشرقية لأوكرانيا ولو في إطار حكم ذاتي يمكن أن يرعب أوروبا تماما ولكن من الجانب الأمني وتداعياته في ظلال سيناريو يوغسلافيا الرهيب أما من الجانب الاقتصادي فإنه قد يشكل على العكس إرباكا لروسيا نفسها ذاك أن المناطق الشرقية التي تعج بالمصانع والمناجم لا تقاس بالحجم الإنتاجي ولا السكاني الموجود مثلا في بريدني ستروفي بالنسبة لملدوفيا وروسيا . وفي حال تكرس مسار انفصالي بمثل هذه السناريوهات فإن أوكرانيا ستتأثر بشكل كارثي ولكنه سيخلق إشكالا معقدا لروسيا - من الجانب الاقتصادي - ذاك أنها لن تستطيع تصريف منتجات هذه المناطق التي من البديهي أن تنغلق بوجهها أبواب أوروبا تماما خاصة أن معظم هذه المنتجات لها مثيل في روسيا . ولم يكن صدفة أن يعلن نائب رئيس المجمع الصناعي في هذه المناطق أن المجمع لا يهمه من سيربح في انتخابات الرئاسة بل يهمه اعتراف الغرب بشرعية الرئيس الجديد وبقانونية الانتخابات وفي حال انغلاق أبواب السوق الغربية في وجهنا فإن ذلك سيشكل ضربة قاصمة لشركاتنا مضيفا بأن الصناعة المعدنية الأوكرانية لا يهمها كثيرا التقارب مع روسيا التي لديها مثل هذه الصناعة وحيث يمكن على العكس أن تتعمق حالة التنافس بدل التصريف المتصاعد . مثل هذه المواقف نجدها في قطاع التعدين الروسي ولكن من زاوية معاكسة حيث سبق أن طلب رؤساء الشركات التعدينية الروسية من الحكومة وضع قيود لحماية منتجاتهم وخاصة من البضائع الأوكرانية والقازاخية بما في ذلك رفع ضرائب الاستيراد حتى 40٪ وكاد الأمر أن يتحول إلى أزمة جدية إبان حكومة كاسيانوف. ومما له دلالته الساطعة في تداخل العلاقات ومنطق الأواني المستطرقة أن هذه الضجة آنفة الذكر جاءت بعد أن فرضت الولاياتالمتحدة قيودا صارمة على الاستيرادات التعدينية مما دفع بقازاخستان وأوكرانيا إلى إغراق السوق الروسية بهذه المنتجات التي فاقت 2,5 مليون طن في حين كانت المطالبة بأن يكون السقف 800 ألف طن كحصة لقازاخستان وأوكرانيا معا. الملاحظة الأخيرة التي يمكن أن نسجلها في هذا التناول المكثف هي أننا لا نستثني أن يكون قطع الغاز التركماني إرهاصا لدفع الدول المنتجة لمصادر الطاقة في آسيا الوسطى وما وراء القفقاس للتوجه نحو خط باكو جيهان وقد تشمل هذه الضغوطات تجميد المشروع الروسي الأوكراني المشترك لمد أنبوب برودي أوديسا أيضا لكي تضطر روسيا في نهاية المطاف إلى الرضوخ إلى الأمر الواقع بالاتجاه نحو الاستفادة من خط باكو جيحان المنافس لها منذ نشوئه خاصة أن روسيا تسعى بشكل محموم إلى زيادة إنتاجها في السنوات الخيرة الأمر الذي يحتاج إلى زيادة في طرق التصريف أيضا .