التراث اليوم واقع بين دهشة الصغار وإثارة ذكريات الكبار، بين بسمة واستفسار الناشئة، ودمعة من عاش أيامه الماضية. لقد مرت الأجيال السابقة جيلا بعد جيل متعاقبة عبر الزمن على هذه الأرض ربما في ذات المكان وربما متنقلة مختارة للأنسب من الأمكنة. في البادية حيث التنقل وبيوت الشعر والخيام يحمل الجميع ذكرياتهم عبر الطريق وترتسم على خشوم الجبال ونايفات المرتفعات وبين الصخور والجبال والكهوف، وفي الحضر حيث الاستقرار في الدور والبيوت وبين الجدران أو حياة الكد في المراعي والمزارع تحفر الذكريات في كل زاوية منها مع حفر الإنسان للآبار ليثبت أنه مستقر لن يرحل عن ذكرياته. ولكن وهنا يستوجب الأمر وقفة تأمل وملاحظة: لم تكن الفوارق بين نمط حياة الأجيال المتعاقبة فيما مضى من عصر إلى آخر مختلفة متباينة بل كانت متقاربة والاختلافات لا تكاد تذكر، فلم يحصل انقلاباً وتبدلا كاملا من جيل وفترة زمنية إلى أخرى، بحيث يختلف نمط العيش كلية عن الآخر وجذرياً، وإن تميزا بفارق بسيط فهو نتاج تجربة الجيل الجديد ومغامرة يسيرة محدودة وتحول طبيعي تستلزمه ظروف الحياة وتماشياً معها، إلا أن ذلك لا يشبه ما حصل مع جيل اليوم الذي نسف أدوات الأمس كلها تقريبا، واستحدث غيرها وانقلب نمط المعيشة لديه وتبدل أسلوب حياته. فلو رجعنا بالذاكرة وما تم تدوينه مئة سنة أو ثلاثمئة سنة أو أكثر لنتصفح حياة ثلاثة أجيال أو تسعة أجيال مضت، فإننا سنجد في معظم ما نستكشفه عنها تقاربا في نظام الحياة ومكونات المناشط ونمط عيشها، وقوام تلك المعيشة وأسلوبها وشيء من تقارب العادات والتقاليد والعلاقات، وكذا الحرف والمهن سنجدها لا تبتعد عن الرعي والزراعة والتجارة والحياة البسيطة الهادئة، وليل دامس ونهار مشمس وأفراد كادحين يعملون من أجل لقمة العيش وتأمينها وعلاقات محدودة بوسائل معتادة، وبيوت من الحجر أو الطين أو كليهما معاً أو من مادة البيئة التي تعودوا استخدامها من سعف النخيل وجذوعها أو بعض الأشجار، وزخرفات بسيطة واستخدام لخامات البيئة من أخشاب وجير وصخور يعالج بالخلط أو بالحرق بالنار الخ.. سوف نجد مباني بشرفات تزينها ، وفتحات تهوية وسقوف عالية تحميها وأبواب خشبية تغلقها وقرى تتشابه وطرقات متعرجة متماثلة ، حتى إن صورها تذكرنا ببعضها للتشابه بينها ، فقرية في القصيم مثلا سنجدها مشابهة لقرية طينية في سدير أو الرياض أو عموم نجد التي تستخدم مادة الطين في البناء ، وشبيه لهذا في مناطق الجبال في الجنوب أو الحجاز وإن ظهرت براعة الحرفي ومهندس البناء أحياناً إلا أن الهيكل العام هو نفسه عبر الأجيال. سوف نجد بصمات و هوية أجدادنا وامتداد ثقافتها وحضارتها مسجلة في كل إرثها هذا، وهذا هو المهم الانتماء والامتداد، وسوف نجد متكأ وقفت عليه الأجيال التي جاءت بعدهم و تعاقبت وكانت الانسيابية سمة هذا التتابع إلى حد التداخل فلا نكاد نفرق بينها ولا نجد فواصل تذكر، بحيث يبدو التمازج بين كل جيل وآخر هو السمة الواضحة. ولكن هذا التداخل والامتداد الانسيابي المرن والتتابع الهادئ اختلف اليوم فلم يكن كما كان، فقد حدث انفصال وقطع واضح وكسر بل أخدود وفالق عميق يجعل حياة الأمس مختلفة عن حياة اليوم بلا قواسم مشتركة، وقد حصل هذا فجأة بين جيل الأمس بكل صفات معيشته وأدواته ومناشطه ومكونات ومقومات حياته، وبين جيل اليوم الذي انفتح على العالم وفتح له فولج فيه بكله من دون مؤشرات واستئذان وامتزج مع غيره بشكل يدعو للتفاؤل والقلق في آن واحد. لقد فوجئت الحياة التي تعاقبت لسنين طويلة بصورة جديدة لا تنسجم مع وسائلها ولا تندمج فيها ولا تتلاقى مع مكوناتها ولا تقوى على الامتداد معها أو الاندماج ضمن مكوناتها لهذا فضلت الانزواء في قرى الطين. دار الطين البسيطة والبيت الصغير تبدل إلى قصر واسع مبني من الاسمنت والحديد أو عمارة شاهقة من زجاج وحديد، والسانية وهي صاحبة الامتياز ردحاً من الزمن أجبرت على التنحي، وحل محلها مضخات وغطاسات وآلات حديثة تدار بالكهرباء أو بالوقت تملأ المكان ضجيجاً، ووسائل النقل البدائية من جمل وحمار وحصان رغم خدمتها لمئات بل آلاف السنين إلا أنها لم تعد صالحة في هذا الزمن فحلت محلها سيارة وقطار وطائرة تؤكد تواجها بدخان يزكم الأنوف، وكذا الاتصالات والتقنية ووسائل الإعلام صارت تنقل الخبر والأحداث فور وقوعها بعكس الزمن الماضي حيث لا يصل الخبر إلا بعد أيام وربما شهور، وتواصل العالم من طرفه الأقصى إلى الطرف الآخر، وغير هذا كثير مما لا يعد لكثرته وتعدد أصنافه وأنواعه، وحصل انقلاب كلي في التتابع المرن الهادئ والتداخل غير المنظور بين الأجيال وهو أمر غير متوقع ولا متخيل ممن عاش في الماضي فلم يخطر على بال أحد لا من العلماء ولا من العامة ولا حتى من أصحاب الخيال. تبدلت معيشة الأمس وتغيرت بفارق لا يمكن مقارنته أو لملمة أطرافه بعضها على بعض، بغض النظر عن مكونات الماضي أو هذا القادم سلباً أو إيجاباً، إلا أنه يعد حدثاً مختلفاً بالكلية لم يحصل في تاريخ البشرية مثله رغم التقدم في بعض العصور السابقة من كشف للحديد أو أي معدن، وهو تحرك بدأ من وقت الاختراعات والاكتشافات. إن ما بقي من الأمس وحياة الأجداد إنما هو: التراث بأقسامه سواء المادية التي نراها ونتحسسها كالمباني والأدوات وغيرها أو غير المادي، وهو ما له علاقة بالعادات والتقاليد والمناشط والفكر ونتائج التجارب وكذلك الحرف والألعاب والأمثال والحكم والشعر والثقافة عموما. هذه البقية الباقية التي نراها في الأطلال والأسوار والأبراج والآبار والأدوات القديمة، هي جزء من تراث ينتمي لقرون سابقة، وهو صفحة من حضارة عريقة وتاريخ له أهميته، كما له ذكره وذكرياته عاش بعض الجيل طرفاً منها ودون جزءا منه أيضا وربما فقد بعضه، واحتفظت الذاكرة بكثير الممتزج بالأحاسيس والمشاعر والصور التي تحتل مخيلة كل قادم من أيام غربت عنها الشمس لكن شعاعها لا يزال يتقد في أحاسيس كثيرين ومشاعرهم. ولعل حلقة الوصل بين جيل مضى وجيل اليوم فيما يخص التراث المادي، هو هذا الشاهد الذي يقف على ساقين من الطين والحجارة ويستظل بسقف من الخشب، على شكل دار أو بيت ومنزل فارغ من ساكنيه لم يعد صالحا للسكن في ظل الحياة العصرية وإن كنا لا زلنا نحن إليه لكن لم يعد قادرا على استيعاب حياتنا الجديدة. نعم هو فارغ في مشهدنا ونظرنا لكنه ليس فارغاً من ذاكرته التاريخية والحضارية التي يحتفظ بها في سجله المنشور أمامنا وتسهل قراءته لمن يطلع عليه. هذا السجل التاريخي والذاكرة التي يحتفظ بها ويعرضها لنا بوضوح في صفحاته، هي في الواقع بطاقة دعوة إلى التمعن في مضامينه، لكن قراءة صغار السن لها تختلف من حيث الزاوية والتلقي عن قراءة كبار السن ممن عاش فترة سبقت وتعايش مع معظم ظروف الأمس، ونام وقام في دار الطين وأشعل نار التدفئة في غرفة بها أو روشن أو قهوة، وتناول طعامه في مصباحها وباحتها وبين أروقتها، وراقب نمو أطفاله بين سواريها ومجلسها وفي سكك القرية وطرقاتها، وودع آباءه وأجداده من نوافذها، وألف صرير انفتاح أبوابها وإغلاقها حتى إن رائحتها بين الطين والماء باقية في نفسه تتردد في رئتيه. يقول الشاعر عبد الله المجيدل : بيوت الطين لا شفته تذكرني زمانٍ دار زمانٍ رغم ما به من قساوة ماحدٍ سبه وهذا بيتنا واطلاله اللي عودت تذكار وذاك الروشن وهذا مكان الزير والقبه وصفة جدتي ما باقي الا بابها واجدار وصوت الباب يصفر كلما هب الهوى هبّه وهذا ما بقى من صفة أمي والغمى منهار غماها من جذوع الاثل واحلى من غمى الصبّه وهذا كان مطبخنا وهذا هو مشب النار قبل لا نعرف الغاز وقبل لا تطلع الدبّه وهذا هو مجبّبنا وهذاك الكمر ووجار وذيك الدكه القصيا وهذا الحوش نلعب بّه سقى الله ذيك الايام الخوالي ليتها تندار سقى الله لا تجمعنا وصارت عندنا الشبّه سقى الله يوم تبرق ثم ترعد والسما مطار وصوت المثعب يسورب وكنك جالس بجنبه وجتنا الجدة تسبحن علينا يوم حنا اصغار على شمعة سراج القاز قبل لا نعرف اللمبّة زمن به للطفولة في خيالي ذكريات اكثار يا ليته ترجع الايام لوقتٍ راح واحبّه ولكن ما مضى هيهات يرجع والزمن داور يروح الوقت مع ناسه ويبقى ربي وربّه