قبل خمسة وعشرين عاما خلت، احتلت فتاة أفغانية شابة ذات عينين خضراوين أغلفة المجلات الغربية بعد أن أصبحت صورة رمزية لمصير أفغانستان، كفتاة لاجئة صغيرة هاربة من الحرب بين الشيوعيين المدعومين من قبل السوفيات وبين المجاهدين الذين كانوا يتلقون الدعم من الأميركيين. أما الآن فان الصورة الرمزية لأفغانستان فتجسدها امرأة شابة أيضا تدعى بيبي عائشة الذي قام زوجها بجدع انفها وقطع أذنيها كعقاب لها على هروبها منه ومن عائلته. لقد هربت عائشة لتنجو من الضرب وصنوف التعذيب وإساءة المعاملة. ولعائشة، وهي أمية لا تقرأ ولا تكتب وعمرها 19 سنة، قصة حزينة وطويلة، بدأت عندما هربت مع مقاتل من طالبان تزوجها وهي في سن 12 سنة وأدمن بعدها على تعذيبها والتنكيل بها، بلا سبب، فسعى أهلها وراءها حتى أمسكوا بها وأعادوها ثانية إلى بيت العائلة، حيث كانت تقيم كخادمة تنام أحيانا في حظيرة الحيوانات. وقضت محكمة قبلية تابعة لطالبان بقطع أنفها وأذنيها لهروبها من بيت الزوج، وفوضت الزوج وأقاربه بتنفيذ العقاب، في تل قريب من المنزل. وكان تقطيع الأوصال يعد «قصاصاً عادلاً لجريمة جلب العار إلى عائلة الزوج»، إبان حكم طالبان. ومعروف في ثقافة البشتون أن الزوج الذي يخجل من أفعال زوجته يكون كمن فقد انفه. وعثر عمال إغاثة على عائشة وهي تنزف ونقلوها إلى ملجأ «جمعية من أجل نساء أفغانستان» في كابول، وكانت تنزف بشدة وفقدت النطق من صدمة ما حل بها، ثم عرضوها على أطباء قاموا بعلاجها بدنيا ونفسيا، فتحسنت بعض الشيء مع الوقت، إلى أن تمكنوا من نقلها إلى الولاياتالمتحدة، حيث خضعت لجراحات تجميل وترميم على مدى ثمانية أشهر استعادت بعدها أنفها وأذنيها. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا يقوم الأزواج والآباء وأشقاء الأزواج والحموات بمعاملة النساء في عوائلهم معاملة وحشية لا إنسانية؟ هل هذه الأفعال العنيفة نتاج لمجتمع تقليدي وجد نفسه فجأة في القرن الحادي والعشرين بعد سنوات من العزلة والحروب الضارية؟ في هلال البشتون الذي يمتد من إقليم فرح صوب الغرب إلى كونار في شمال شرقي أفغانستان فان الحياة تنتظم حول قانون يسمى «البشتونوالي» أي طريقة البشتون». وركائز قانون البشتونوالي هي «الزار» أي الذهب، و»الزامن» أي الأرض، و»الزان» وتعني النساء. أما المبادئ التي تنبني عليه الحياة الكريمة فهي «الميلماستيا»( كرم الضيافة)، و»الناناواتي» (المأوى)، و»البدل» ( العدالة أو الثأر). ( بيبي عائشة ) زوجها جدع أنفها وقطع أذنيها بأمر من محاكم البشتون القبلية لانها هربت من الظلم وكلما اتسم البشتوني بالكرم كلما ازداد شرفا. فإذا وقف شخص غريب أو عدو أمام بابه طالبا الحماية فان شرفه يحتم عليه أن يدخل ذلك الشخص إلى منزله. وإذا لحق أي ضرر بأرض الرجل أو نسائه أو ذهبه فان كرامته ترغمه على أن يثأر لشرفه. فالرجل البشتوني الذي لا شرف له رجل بلا ظل وبلا قيمة وبلا كرامة. غير انه ليس مقبولا بصفة عامة أن تحاكي نساء البشتون رجالهن في القيام بواجبات الضيافة للأغراب أو أن يلجأن للثأر. إنهن مجرد متاع يتقاتل الرجال بسببهن بدواعي الشرف إلى أن يضيق بهن الوضع ويحاولن التمرد عليه. ففي مأوى للنساء ضحايا العنف بكابول تتردد قصة فتاة من عائلة بشتونية ثرية في ولاية مجاورة للباكستان، كان قلبها قد خفق بحب شاب من قبيلة أخرى. ولجأ الأب إلى قتل الشاب وأربعة من أشقائه وعندما اكتشف أن والدته هو ساعدت ابنته على الفرار من غضب والدها فانه عمد إلى قتل أمه أيضا. والآن يعرض الرجل مبلغ 100 ألف دولار مكافأة لمن يأتيه برأس ابنته. بيبي عائشة قبل تزويدها بأنف صناعي وقد تكون هذه ممارسة متطرفة من رجل متطرف. غير أن الكثير من رجالات البشتون على قناعة بان رجولتهم وأسلوب حياتهم يتعرضان للتهديد من قبل جيش أجنبي ورجالات دين أجانب وتلفزيون أجنبي وجماعات حقوق إنسان دولية ومن ثم يعضون بالنواجذ على تقاليد تحدد من وقت ضارب في القدم معنى أن يكون الرجل بشتونيا. المرأة مجرد متاع يتقاتل الرجال بسببه.. وتعيش كخادمة وتنام أحياناً في حظيرة الحيوانات وقد يعثر الزائر في المكتبات على كتيب يضم مجموعة من أشعار «اللاندي»، وهو نوع من «أغاني البنات» ترتجله النساء الأفغانيات، وهي في الأساس، قصائد تتألف من بيتين فقط. كما أن جوهرها أشعار سرية، تتناقلها البشتونيات شفاهة ويعبّرن من خلالها عن ألوان من العشق واللهفة والألم، والحرمان والقلق والمعاناة. واهم ما في هذه القصائد التي جمعها من مصادرها الشاعر الأفغاني سيد بهاء الدين مجروح، الذي اغتيل في منفاه في الباكستان في عام 1988 انك تحس فيها بزفرات النساء في مجتمعات البشتون ذات التركيبة القبائلية الصارمة، حيث للذكور السطوة، وللإناث الانصياع.. وتلمس مجروح في تلك الأغاني التي تعتبر صرخات من أعماق القلب تحديا للكرامة الذكورية التقليدية والتي قد تكون زائفة. ومصير المرأة البشتونية، من المهد إلى اللحد، طابعه العار والحزن إذ يتم تلقينها أنها لا تستحق الحب. ولهذا سطر مجروح في كتيبه قائلا، «أغاني اللاندي صرخات للحرمان من الحب وسرد للتعاسة الناجمة عن حياة زوجية لم يكتب لها التوفيق». فزوج المرأة إما طفل غر أو كهل أشيب تم فرضه عليها فرضا وفقا لتقاليد القبيلة. وأطلق مجروح علي كتابه اسم»الانتحار والغناء» لان هذين الفعلين هما طريقتهن في التعبير عن معاناتهن. ويتم الانتحار عن طريق تناول السم أو الغرق. بيببي عائشة أصبحت رمزاً لمعاناة النساء الأفغانيات وفي ظل هذا الانصياع والخنوع تراود البشتونيات رغبة عارمة في التمرد على واقعهن الأليم، ما دفع البرلمان الأفغاني مؤخرا إلى صياغة قانون يهدف للقضاء على العنف ضد النساء اللواتي بدأن في رفض الممارسات الثقافية القديمة وتأكيد ذواتهن في السر والعلن. وتقول البشتونية ساهرة شريف، وهي أول أنثى عضو في البرلمان إن معظم العنف والقسوة ضد النساء مردهما إلى أن الحروب أصابت الناس بالجنون. وليس أدل على ذلك سوى تلك الصورة التي نشرتها مجلة محلية لامرأة ممددة على الأرض وقد قُطعت حنجرتها بعد أن ذبحها أفراد عائلة زوجها. وتوسلت أم المرأة، وقد بلغ بها الحزن مبلغه، إلى المجلة لنشر الصورة. وبعد سقوط طالبان في عام 2001، استبدلت الفتيات الشابات المتعلمات أغاني اللاندي القديمة، بالأشعار والروايات ويقمن بإعداد الأفلام الوثائقية والأفلام الطويلة. وتتناول هذه الأعمال قصصا جديدة تحكيها النساء عن حياتهن في أفغانستان. عائشة استعادت جمالها بعد الجراحة طبيبة تتفقد أذن بيبي عائشة المقطوعة