تعتبر قصة موسى عليه السلام والأحداث التي واجهته في تبليغ رسالته إلى بني إسرائيل من أهم المواضيع التي عالجها القرآن الكريم, حتى يكاد أن يوصف بأنه قصة موسى. وهي قصة تناولها القرآن من زوايا مختلفة وبأساليب متنوعة عالجت مواضيع تربوية مختلفة على درجة كبيرة من الأهمية مثل أصول العقيدة وآثارها في الحياة العملية, والتي من أهمها مواجهة الظلم والفساد ووسائل التغيير والإصلاح الاجتماعي. وهذه قضية ذات أهمية بالغة دائما, لكنها اليوم أكثر أهمية, مما يستدعي الوقوف عند القصة وتأمل ما فيها من الدروس والعبر, خصوصا تلك التي يمكن أن تعيننا في إصلاح الأوضاع التي نمر فيها والتي نتج عنها غياب الأمن وانتشار العنف فلا تكاد تخلو بقعة من بقاع الأرض من صراعات دموية ونزاعات مسلحة أتت على كل شيء حتى حرقت الأخضر واليابس. وأغلب هذا يجري في أمة تعتبر القتل من أكبر الكبائر, وتقيم للمال والممتلكات حرمتها, ويتدارس أبناؤها حديث المرأة العابدة التي دخلت النار في قطة حبستها حتى ماتت. لكن البعض اليوم يبرر القتل والعنف بشتى المبررات ومنها مبررات الإصلاح, الذي هو حاجة من أهم احتياجات الأمم, لأنه الدالة التي تميز بين الأمم الحية التي تتغير مع متطلبات عصرها, تلك الميتة التي فاتها زمانها وبقيت جامدة مثل الصخور في واد مهجور. من أجل ذلك كانت الحاجة كبيرة إلى أن تدارس سبل تغيير الواقع ومواجهة لغط الأعداء الذين وجدوا من هذه القضية نقطة انطلاق لهجمة شرسة تحاول صبغ ديننا الحنيف بما ليس فيه, مستغلة جهل بعض أبنائه واندفاعاتهم غير المنضبطة. لقد شاءت الإرادة الربانية أن ينشأ موسى في بيت فرعون ولعل الحكمة في ذلك إعطاؤه الفرصة لكي يتعلم أساليب القيادة في أعلى مستوياتها, وهذه ليست متوفرة لبني إسرائيل في مصر آنذاك الذين كانوا يرزحون تحت قيود الرق والاضطهاد, كما وأنها وفرت لموسى الاطلاع ومن موقع القرار على الواقع المرير الذي تعيشه الأمة والتعرف على الظلم والفساد الواقع على بني إسرائيل خاصة وشعب مصر عامة من جراء حكم بلغ في الطغيان مبلغا لم يسبقه أحد من قبل ولا من بعد. هذه المعرفة, بلا شك ولدت عند موسى الرغبة القوية في التغيير والإصلاح, أو على الأقل القيام بأي عمل من شأنه أن يخرج بني إسرائيل مما هم فيه ويغير واقعهم إلى ما هو أفضل. فما الذي قام به موسى وما هي الوسائل التي لجأ إليها لتحقيق هدفه؟ وكيف كانت النتائج؟ كانت الوسيلة الأولى التي لجأ إليها موسى هي مواجهة الظلم بالعنف, وهي ردة فعل بدائية غريزية عند الإنسان, خصوصا أن الله وهب موسى عليه السلام قوة في الجسم, كما وأنه تعلم من ملازمة فرعون أن القوة والعنف هي الخيار الأول في مواجهة العديد من المشكلات, فهو بلا شك يدرك أن فرعون لما علم بأن الشخص الذي يقود بني إسرائيل نحو الخلاص سوف يولد في العام الذي ولد فيه موسى, كان الحل الذي اختاره هو العنف بأقسى صوره, وهو قتل جميع الأطفال الذكور الذين يولدون لبني إسرائيل في تلك السنة. ولذلك كان العنف هو الوسيلة التي لجأ إليها موسى في أول اختبار له. " وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ . قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ " (القصص: 15-17). فماذا كانت النتيجة؟ أيقن موسى بفطرته السليمة أن القتل وإراقة الدماء ليست الوسيلة الصالحة لإحداث التغيير الاجتماعي المطلوب, لذلك وصفها بأنها "من عمل الشيطان", ثم إنه لجأ إلى الله طالبا المغفرة, وأخيرا عاهد الله على أن يكون ناصرا للحق والعدل وأن لا يكون ظهيرا للمجرمين. أما عن القضية الأساسية التي كان موسى يسعى من أجلها, وهي الإصلاح, ففي الحقيقة أن قتل الرجل المسكين لم يغير شيئاً من الواقع, فالظلم بقي كما هو والعبودية المفروضة على بني إسرائيل بقيت ولم تتغير, اللهم إلا أن موسى أصبح طريداً ومطلوبا في قضية قتل. لكن موسى, ومع إقراره بخطأ العنف ووصفه له بأنه من عمل الشيطان إلا أنه لم يكن يعرف وسيلة غيره للإصلاح, وذلك أنه عندما واجه نفس الموقف في اليوم التالي ومن نفس الشخص الذي استغاثه بالأمس هم موسى بأن يبطش به كما فعل بالأمس. لكن الحقيقة التي واجهت موسى هي: "فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ" (القصص: 19). لقد كان كلام المصري واضحاً وهو أن موسى الذي يريد أن يكون من المصلحين يستخدم نفس وسائل المتجبرين في الأرض الذين ينتقدهم ويسعى إلى تغييرهم. إن هذه القضية التي تثيرها الآيات مسألة مهمة وأصل من أصول ديننا وهي ارتباط الوسائل بالغايات. فالذي يريد الإصلاح يجب أن يسلك وسائل المصلحين وهي مختلفة تماما عن وسائل الجبارين الذين يلجؤون إلى العنف في مواجهة ما يلاقون من مواقف, ذلك إن الوسائل تؤدي إلى غايات محددة ومن لجأ إلى ذات الوسيلة وصل إلى نفس الغاية بغض النظر عن صلاح النوايا أو فسادها. والآية واضحة كل الوضوح "إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض" ولذلك جاءت بلسان المخاطب من المصري إلى موسى قائلة بأن هذه الوسيلة التي اتخذتها لنفسك, وهي القتل والانتقام, لن تؤدي بك إلا إلى نتيجة واحدة وهي التجبر وسوف تصبح جبارا مثل فرعون والجبابرة الذين تدعي محاربتهم. وكانت النتيجة أن وسيلة العنف فشلت في تحقيق الهدف المطلوب, وهو الإصلاح, لا بل على العكس ربما أبعدته عن ذلك كثيرا إذ جعلت منه طريدا مطلوبا مهددا, فلم يجد سبيلا إلا اللجوء إلى مدين هربا بنفسه, تاركا مهمة الإصلاح وراءه. وكان أول عمل قام به في مدين " وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ" (القصص: 24). والعمل الذي قام به موسى بسيط في ظاهره ولا يمت بصلة إلى مهمته الإصلاحية. لكن هذا العمل البسيط, وهو مساعدة امرأتين كانتا تحاولان الوصول إلى الماء من دوى جدوى, يحول بينهما وبينه غياب النظام الذي يمنح الضعيف فرصة متكافئة مع القوي ويحوّل حياة البشر إلى فوضى تحكمها شريعة الغاب التي لا حظ فيها للضعيف وكل الغنائم للأقوياء. وأمام هذا الموقف فقد كان بإمكان موسى أن يقف وأن يلقي خطبة عصماء تتحدث عن أهمية المساواة الاجتماعية, أو ضرورة إنصاف المرأة في المجتمع, لكنه بدلا من ذلك كله آثر أن يعمل شيئاً بسيطاً, وهو القيام بسقي القطيع, ثم تولى بعد ذلك إلى الظل داعيا الله أن ينزل عليه الخير. لكن موسى لم يكن ليعلم أن هذا العمل الإنساني الذي قام به كان بمثابة المفتاح الذي فتح عليه أبواب الخير التي كان ينشدها وجلب له العديد من الثمار التي غيرت حياته تماماً وبطرق لم يكن يحلم بها, ومنها اتصاله بنبي الله شعيب الذي جاء في الوقت الذي هو بأمس الحاجة إلى مصاحبته والتعلم منه وإزالة ما بقي من آثار العيش في قصر فرعون, ثم أن هذا العمل جعله يتعرف على المرأة الصالحة الحكيمة ذات النسب والتربية التي أصبحت زوجته ورفيقة دربه, وكان من ثمار ذلك العمل التطوعي أنه وفر له الملجأ الآمن الذي يحتاجه, كما وفر له العيش الكريم مدة عشر سنين في انتظار مهمته القادمة. لقد كانت السنين العشر التي قضاها موسى عليه السلام في مدين فترة تأمل وتدبر وتعلم, ولا شك أن موسى تغير كثيرا, فلم يعد ذلك القوي المعتد بقوته الجسدية الذي يعتقد بأن القوة هي الحل لكل المشكلات كما تعلم في بيت فرعون. ولتدليل على التغيير الكبير الذي حصل له, فإنه عندما سار بأهله وجاءت اللحظة الحاسمة في وادي الطور وكلمه الله وأمره بأن يواجه الطاغوت, لم يطلب موسى عليه السلام من ربه مددا من القوة المادية من سلاح وجنود, وإنما طلب العون في توضيح الرسالة بأن يشد عضده بأخيه هارون لأنه أفصح منه لساناً وأقدر على توضيح الرسالة. لقد أدرك بعد تلك السنوات أن الحجة هي سلاح الحق الأقوى, وإن قوة الحق ذاتية لا تحتاج إلى إسناد, وأن الباطل هو الذي بحاجة إلى العنف والقتل وإسالة الدماء لأنه ضعيف في داخله, وإذا لجأ أصحاب الحق إلى العنف, فإن ذلك من شأنه أن يزيل الفوارق بينهم وبين غيرهم. * سفير العراق لدى المملكة